التكامل الاقتصادي العربي والسلم الاجتماعي
في منتصف الخمسينات من القرن المنصرم، نشر والت روستو، مستشار الرئيس جون كيندي لاحقاً، للأمن القومي نظرية المراحل . وفيها أشار إلى أن العالم بأسره، يشكّل وحدة اقتصادية، وأن التباين في النمو بين البلدان الصناعية المتقدمة، في أمريكا وأوروبا الغربية، وبين بلدان العالم الثالث، هو مسألة وقت، حيث سيتكفل التكامل في العلاقات الاقتصادية الدولية، بتنمية كل بلد على حدة، إلى أن يصل إلى مرحلة الانطلاق . ورأى روستو أن السبيل إلى ذلك هو تعميم الديمقراطية، والمشاركة السياسية وتبادل السلطة .
ورسمت هذه الرؤية سياسة الرئيس كيندي، تجاه دول أمريكا اللاتينية، أثناء حقبته الرئاسية، وتوقفت هذه السياسة مباشرة إثر اغتياله، في مدينة دالاس، بولاية تكساس . وأبرز مؤشراتها، هو توقف إدارة كيندي عن دعم الانقلابات العسكرية، في أمريكا الجنوبية، ومساندته للحكومات الديمقراطية فيها .
واجهت هذه النظرية، كما واجهت النظريات الرأسمالية سابقاً، نقداً مريراً، وحاداً هذه المرة، من قبل مفكرين، في دول أمريكا اللاتينية، مثل جندر فرانك، وداس أنتوس، وآخرين من خارج القارة، مثل ويليرشتاين وسمير أمين، وحمزة علوي . وقد كتب هؤلاء عن التطور اللامتكافئ، مشيرين إلى أن العلاقات بين الدول لا تقوم على الانسجام، وأن الذي يحكمها هو التنافس والصراع، وعلاقة بالمحيط، هي باستمرار علاقة هيمنة واستيلاء، من قبل المركز على المواد الخام بأقل الأسعار، وذلك يعني أن استمرار هذه العلاقة، القائمة على الفوقية والابتزاز، من شأنه تكريس التخلف إلى ما لا نهاية في الدول النامية، وغياب الندية والتكافؤ والعدل .
أكدت السنوات اللاحقة، منذ انطلق هذا الجدل، في منتصف القرن الماضي، حتى يومنا هذا، أن على دول العالم الثالث، ألا تعول كثيراً على تحقيق أي تكامل اقتصادي بينها وبين المركز . وأن قدرها الاعتماد في تنمية مواردها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على قدراتها الذاتية، وتحفيز النزعات الاستقلالية، لتحقيق النمو والالتحاق بمنجزات العصر، على الصعد العلمية والتكنولوجية .
تجرنا هذه المقدمة للحديث عن التكامل الاقتصادي العربي، قاطرة حيوية وأساسية في صيانة السلم الاجتماعي . فهنا أيضاً في الوطن العربي، بون شاسع في المسافة، على صعيد التقدم والنمو، والولوج في عصر الصناعة والثورة الرقمية، بيننا، وبين الدول الصناعية المتقدمة في الغرب والشرق . وهنا أيضاً ضرورة قصوى في أن نخوض تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، اعتماداً على قدراتنا الذاتية .
الأوضاع في معظم البلدان العربية، في هذه المرحلة، لا تبشر بخير، والحديث في هذا الموضوع يطول ويطول . . هناك بلدان عربية، مهددة في وجودها، وتحولها إلى كانتونات تقوم على أسس طائفية وقبلية وفئوية . وهناك بلدان أخرى، مهددة في هويتها الوطنية، بسبب الخلل الفاضح، بتعداد السكان الأصليين، والوافدين، لمصلحة العمالة الوافدة . وهناك ظاهرة اتساع الفروق بين الغنى والفقر، وانتشار العشوائيات، وانهيار الخدمات الصحية، واستفحال الأمية، وعدم توفر المياه الصالحة للشرب .
هناك أيضاً، خلل في التركيبة السكانية للبلدان العربية، بين انفجار سكاني في بعض الأقطار، وتدن في الموارد البشرية في أخرى . ويتزامن ذلك باختلاف حاد في مستوى دخل الفرد، وتنوّع في مصادر الثروة . وهناك تدن حاد في مستوى التبادل التجاري بين هذه البلدان، بحيث يصح القول، إن التبادل التجاري بين أي بلد عربي، وبلدان المركز، يفوق بكثير التبادل بينه وبقية الدول العربية الشقيقة . ذلك أمر يبدو منطقياً، في ظل ضعف الإرادة السياسية، والخلل في النمو في معظم الأقطار العربية .
يعيدنا هذا التوصيف القاتم، إلى نظرية المراحل، في وجهها المتعلق بتبادل المنافع، وتأثيره فيما يدعى بالانطلاق . في الوطن العربي ليس هناك، على الصعيد العملي أطراف أو مراكز . فحالنا الحاضر، يؤكد أننا جميعاً في الهم شرق . وواضح أن العلاقة الاقتصادية التكاملية بين البلدان العربية، من شأنها أن تقلب صورة الواقع الراهن، الواقع الذي جرى توصيفه بالقاتم، وليس هناك ما يشي بأي تهديد بين مركز عربي وأطراف عربية، فكلنا مراكز في جوانب وأطراف في جوانب أخرى .
وما نشهده في كثير من البلدان العربية، من تداعيات محمومة، باتجاه تفكيك الكيانات الوطنية، لمصلحة بعث الهويات ما قبل التاريخية، هو في جانب منه احتجاج على افتقار الدولة إلى القدرة على مقابلة استحقاقات الناس . وهو تعبير عن احتقان دفين، تجاه أزمات مستفحلة، لم يجر التعامل معها بحلول جذرية . وسوف تستمر حالة الاحتقان، مهددة الوجود العربي، ما لم يجر العمل، بشكل حاسم وسريع، على معالجتها . وذلك لن يتحقق خارج إطار التكامل الاقتصادي العربي، والتوزيع العادل للثروة .
التكامل الاقتصادي العربي، هو الذي يفتح الأبواب مشرعة للعمالة العربية، لتنتقل من بلد عربي إلى آخر، بما يضيق الفجوة، بين الانفجار السكاني في بعض البلدان، وتدني الموارد البشرية في بلدان عربية أخرى . وهو أيضاً، الذي يفتح الأبواب لتسرب الرساميل العربية من بلد إلى آخر، بما يفسح المجال للبلدان الضعيفة في إمكاناتها المالية، من تحقيق استثمارات ضخمة، في المجال الزراعي، في بلد كالسودان، يملك قدرات هائلة على تلبية ما تحتاجه البلدان العربية مجتمعة من القمح، بما يسهم في زيادة التبادل التجاري العربي، ويساعد على تجاوز الأزمة الراهنة، الناتجة عن الارتهان لابتزاز الأسواق العالمية .
التكامل الاقتصادي العربي، بهذا المعنى هو إسهام في تعضيد السلم الاجتماعي، لأنه يسهم في تخفيف حالة الاحتقان، ويساعد على ارتفاع دخل الفرد، ويضيق مستويات البطالة، بما يؤدي إلى الحد من نسبة ارتفاع الجريمة، ويعالج الخلل السكاني في البلدان العربية، ويحافظ على الثروة العربية، حيث يجري تدوير الثروة المالية، داخل البلدان العربية .
وتبقى قضايا مهمة وملحّة في مجال تناول التكامل الاقتصادي العربي والسلم الاجتماعي، كالوحدة النقدية، وأهمية التوسع في مد شبكة المواصلات، والتقريب في الثقافات، بحاجة إلى المناقشة في الحديث المقبل بإذن الله تعالى .
د . يوسف مكي
yousifmakki@yahoo.com