دُور «النشل» السعودية!!
الأسئلة لا تبقى على حالها، فقد يُجاب عنها أو عن جزء منها، لكنها لا تموت، بل قد تنقلب بشكل جذري لأسباب موضوعية وزمانية ومكانية، حيث كنا نتساءل ونطالب بتأسيس دور نشر محلية تهتم بآلية إنتاج الكتاب وتشجع الكُتاب على التأليف، لإنقاذ المؤلفين في السعودية من جشع الناشر الأجنبي، وعندما تحقق ما حلمنا به من الناحية الشكلية والعددية صرنا نتأفف ونعلن غضبنا واستياءنا من تخبُّط الناشر المحلي.
لقد ظهر ناشر أكثر رداءة وجشعاً من ذلك الذي كان يدير منتجنا الثقافي من وراء الحدود، إذ لا يتمتع معظمهم لا بالمهنية ولا بالمصداقية، فالثقافة لا تقع في مقدمة أولوياتهم بقدر ما يبدو الربح هو الهدف، الأمر الذي جعل من هذه الدور سواء التي تدير عملية إنتاج الكتاب وتسويقه من الداخل أو من الخارج مجرد دكاكين لبيع وشراء مشتبهات إبداعية، بمعنى انها تنازلت عن أداء أي دور ثقافي أو تنويري ينتصر للكلمة.
الأخطاء الإملائية والطباعية والنحوية التي تزدحم بها إصدارات هذه الدكاكين تنم عن استهتار بمفهوم الكتاب، وهي نتيجة طبيعية لعدم وجود محرر أدبي يمكنه مراجعة أطنان الكتب التي تنتظر دورها، والناشر يعلم أن هوس التأليف في السعودية، وخصوصاً من قبل فئة الشباب يعطيه الحق والفرصة للمزيد من الاستهتار واللامبالاة، فكل ما يهم أولئك الشباب هو رؤية كتبهم ممهورة بأسمائهم حتى وإن لم تُقرأ، وهو الأمر الذي يعفي الناشر من التعاقد مع محرر أدبي يراجع المسودات ويضبط النصوص.
ولا شك أن تلك الهفوات تنغّص على القارئ فرصة الاستمتاع بالكتاب، وتحد من كفاءة الكتاب كما تطعن في نزاهة الناشر، إلا أنها لا تُقارن بجنايات أخرى تُفسد الكتاب بالكامل إلى درجة تجعل منه أي شيء إلا أن يكون كتاباً قابلاً للقراءة، فقد تمت طباعة مسودات عليها خربشات المؤلف وملاحظاته وكأنها جزء من النص، إذ لا تكلف بعض دور النشر نفسها تصفُّح المسودة، وتدفعه مباشرة إلى المطبعة، يقيناً منها أن القراءة هي آخر ما يمكن تصوره عندما يتعلق الأمر بالكتاب
ولأنها- أي دور النشر- لا تمتلك أي خطة نشر استراتيجية تتناسب مع ما بات يُعرف بمجتمع المعرفة، اقتصرت الإصدارات على المجموعات القصصية والشعرية والروايات والخواطر، إذ لا يوجد في سجل معظم تلك الدور أي كتاب فكري أو علمي بقدر ما تزدحم بكتب تتشبّه بالأدب وهي ليست منه ولا تنتسب إليه، فدار النشر بهذا المعنى هي جزء من السوق، وليست جزءاً من الحالة الثقافية، على الرغم من كل المزاعم التنويرية التي تزفّها للمثقفين بين آونة وأخرى.
أما الدُّوْر التي تتجرأ على الترجمة فمصيبتها أكبر، إذ توكل ترجماتها لأسماء شابة وبدون خبرات، وذلك تقليلاً للتكاليف وطمعاً في الربحية العالية، حيث تتردد عن التعاقد مع مترجمين لهم صيتهم وخبراتهم المشهودة، ولذلك ظهرت بعض الترجمات بلغة ركيكة شعبية أقرب ما تكون إلى لغة الشات والتخاطب النتي مع سيل هائل من الأخطاء القاتلة على مستوى النحو والإملاء والصياغة.
إن ظهور تلك الدور وتصديها لمهمة صناعة الكتاب لم تكن متأتية من هاجس ثقافي لإنقاذ المؤلفين في السعودية من أطماع دور النشر الخارجية، إنما ظهرت لأسباب مادية صرفة، والأدلة أكثر من أن تُحصى، إذ لم تلتزم معظمها بعقود واضحة وملزمة مع المؤلفين، حيث بالغت في انتهاك حقوق النشر على كافة المستويات، في اللحظة التي تتجه فيها صناعة النشر إلى إنجاز تفاهمات حول حقوق الملكية الفكرية، حتى اللمسة الفنية لا تبدو حاضرة على الإصدارات الجديدة، فأغلفة الكتب يتم تدبيرها كيفما اتفق، بالنظر إلى عدم وجود مصمم محترف وهكذا.
والغريب أن دور النشر هذه تقوم عليها وتمتلكها أسماء تنتسب إلى الثقافة والإعلام وتنسب نفسها إلى تيارات التنوير، والأكثر غرابة أن حصتهم من السوق مضمونة سواء من المبالغ التي يقتطعونها من المهووسين بالتأليف، أو من حقوق المؤلفين المضيّعة، أو حتى من التعاقدات المضمونة مع الأندية الأدبية التي استحدثت شراكات طويلة المدى مع دور النشر، إلا أنها لا تشبع ولا تريد تجويد منتجاتها من الإصدارات، بل تطمع في المزيد، بحيث تخرج من معارض الكتاب بحصة كبيرة من المال وليس السمعة الثقافية.
وفي ظل هذا الاستهتار بالكتاب من قبل دور النشر، أعتقد أن الأوان قد آن لرقابة من نوع آخر، رقابة تتعلق بجودة المنتج، فالكتاب الذي لا يحمل مواصفات الكتاب على مستوى الحقوق والتحرير الأدبي والإخراج الفني ينبغي عدم تمريره، فالرقابة الاجتماعية التي اكتشفت حيل الطبعات المتعدّدة، ودعايات نفاد الكمية عبر المواقع الاجتماعية، وأكذوبات (مُنع من النشر)، لم تعد كافية ولا ناجحة في تعديل أحوال الناشرين والحد من جناياتهم الثقافية، إذ لا بد من جهة تراقب المصنفات وتتعامل معها بمعيارية حقوقية فنية وأدبية.
محمد العباس
اليوم السعودية