مقالات

المصالحة وقد تمت.. ماذا بعد؟

أخيراً رأت حكومة التوافق الوطني الفلسطيني النور بعد أن طال مخاضها. اتفاق فتح وحماس المعروف باتفاق الشاطئ كان صاحب هذا الانجاز الوطني الذي بالحقيقة شارك في تحقيقه الكل الوطني الفلسطيني من فصائل ومؤسسات وشخصيات وطنية. تشكيل الحكومة بالتأكيد لن يسدل الستار على كل الحكاية، فقد بقيت الملفات الأهم بحاجة إلى معالجة. معالجة مبنية على الحكمة وابتكار الحلول الإبداعية، التي تعني أنه يجب ألا يشعر أي من الطرفين أنه مغلوب. فالشعور بالهزيمة سيفجر صراعاً جديداً أجلاً أم عاجلاً. المطلوب أن يعلو التسامح، على كل ما عاداه من مشاعر. فهو القانون الأكثر فاعلية في نفسية الإنسان العربي. وعلينا ونحن نتسامح ونعلو على الجراح أن نتفهم أيضاً أن كلا الطرفين سيحتفظ بروايته للأجيال القادمة وللتاريخ ولن يتخلى عنها. فالدم الذي سال والتجاوزات التي حصلت بحق الوطن والإنسان الفلسطيني وقضيته وسمعته ستظل منقوشة في ذاكرة الأجيال القادمة. فكتب التاريخ الفلسطيني اللاحقة لن تغفل هذه الأحداث. فما حدث كان أكبر من أن يغتفر، وبما أنها كذلك فعلى الشعب الفلسطيني وقواه الحية أن لا يسمحوا بتكرار هذه التجربة المريرة مرة أخرى.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأت المصالحة في الملف الذي كان يجب أن تنتهي فيه. ملف الختام، ملف تشكيل حكومة الوفاق الوطني. وبقيت الملفات التي كان يجب أن تبدأ بها، ملفات المصالحة وهي المصالحة المجتمعية. ملفات الدم الذي سفك من أجل الا شيء. فقد خاض شعبنا تجربة من أقسى التجارب التي لم تحصل على مدى سنوات النضال الفلسطيني الماضية. تجربة الأخ العدو الذي يجب أن يحُارب أولاً قبل أن يحارب العدو الحقيقي المغتصب للأرض، حيث قُدم الثانوي على الأصيل، على العدو الحقيقي الذي يحتل الأرض ويمتهن كرامتنا يومياً ويقف على بعد خطوات منا. العدو الذي نحاول استرضائه حتى يسمح لنا باستنشاق بعض الهواء ويسمح لنا بالتنقل من بيوتنا إلى بيوت أخوتنا وأخواتنا التي لا تبعد عن بيتنا سوى بضعة أميال. العدو الذي مازال يخنقنا كي يلغي وجودنا ويروي حكايته المفبركة حول تاريخ بلادنا، بعيداً عن جثثنا وآلمنا.

رائع أننا عدنا إلى رشدنا وأصبحنا نفهم أننا بحاجة إلى بعضنا البعض وأنه لن يستطيع أحدٌ بمفرده مهما حاول أن يقود السفينة المهشمة والمحطمة من كل الجوانب بل هي بحاجة إلى قيادة جماعية وعلى الكل أن يُشارك في تحمل المسؤولية. الكل عليه أن يساهم بإصلاحها وإغلاق الثقوب التي قد يتسرب منها الماء. هذه السفينة هي قضيتنا التي قدم الشعب من أجلها ومازال مستعداً لتقديم الغالي والنفيس. ولكن وحتى يثمر الدم والمعاناة انتصارا يجب أن ترقى النخب السياسية إلى مستوى هذا الدم، ويجب أن تكون فلسطين أولاً، نعم فلسطين أولاً، مُقدمة على الايديولوجية والمال والمصالح.

فتح تغيرت هذا التغيير. هو تغيير جوهري وملموس، إذ يبدو أنها قد استوعبت خلال السنوات السبع العجاف أنها لم تعد التنظيم القائد المتوج الوحيد، وأصبحت تؤمن بالشراكة وتريد أن تُوزع الحِمل الثقيل وستسعى أكثر فأكثر في المستقبل إلى إيجاد الصيغ النضالية التي تواكب بين أشكال النضال وتوزيع الأدوار حتى لا يُربك شكل منها الشكل الأخر. وكذلك لا شك أن حماس قد تغيرت أيضاً. تغيرت بحيث بدأنا نلمح تغيراً بطيئاً في خطابها يصب في اتجاه أن فلسطين أصبحت سباقة على الإيديولوجيا، وربما وصلت النخب السياسية فيها إلى قناعة تقول أن الشعارات الطنانة والقدرية شيء والواقع شيء أخر، حيث أنها شعرت بما كانت قد خبرته فتح بأنه وقت الجد لا صرخة تدوي في أكناف بيت المقدس سوى صرخة يا وحدنا… التي لطالما صرختها فتح في كل الشدائد التي تعرضت لها فلسطين.

التغيُر الذي حدث لفتح وحماس، كذلك أدى إلى تغيُر في نظرة العالم لنا، ففي عز ضعفنا اجترحنا المعجزات. أصبحنا دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وتزايدت مقاطعة العالم لإسرائيل. بإمكاننا إن تعاونا ورصصنا الصفوف أن نحقق الانتصارات تلو الانتصارات. ولكن علينا دائما أن نتذكر الماضي الأليم ليس لكي نحزن أو نبكي على من قُتل أو جُرح في حرب الأخوة بل حتى لا تتكرر حرب أخوة جديدة… شعبنا بغنى عنها دائماً وأبداً.

د. علاء أبو عامر

كاتب وباحث وأكاديمي من فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.