أي غياهب سجون!
البراك وحيدا في غياهب السجون الظالمة».هذا ما كتبه أحدهم، وأكاد أجزم ان هذا المغرد لم ير، ولم يسمع، ولم يقرأ عن غياهب السجون كما رأيناها وعشناها، وكما رآها وعاشها كثيرون ممن كتب عليهم ذلك، والا لما كتب هذا الكلام العبيط، فالحجز في مكتب أو في غرفة واسعة، مع وجبتي افطار وسحور من أفخم المطاعم في الكويت، ليس له أية علاقة بالغياهب والظلم والظلمات، كيف تحكمون.تغريدة هذا الفتي أعادتني للماضي، وجعلتني أستذكر ذلك اليوم الغليظ، القاسي، الداكن من أيام حياتي، وأعتقد ان نصف شعري ضربه الشيب في ذلك اليوم البعيد، حين دخلت ذلك المكان الخارج من حسابات الزمن،
واعتقدت أنني سأمضي باقي عمري فيه.كان معتقلا في البصرة، وكان يشبه نفقا تم حفره في جبل ناءٍ، فعقب ممر طويل، وملتو، وشبه مظلم يصفعك منظر جحر ضيق، بابه قضبان حديدية، وأرضيته وجدرانه وسقفه من التراب، وأكثر شيء انساني فيه هو تلك القطعة الاسفنجية التي تشربت وشبعت من عرق ودماء وشعر كل من جلس ونام عليها ممن قذف به حظه السيئ الى ذلك المكان البائس.الى جوار ذلك الجحر الحيواني،حفر جحر آخر يحتوي حفرة لقضاء الحاجة، والجحران كلاهما مهينان لكرامة الانسان حتى أقصى حد، ومنظرهما يمكن ان يؤدي للانهيار السريع لذوي القلوب الضعيفة، والمقاومة الهشة، والايمان الضعيف.
كان المكان بالفعل من التي يطلق عليها وصف غياهب، واذا كانت تلك الزنزانة تقع في بدايات ذلك الممر الملتوي كالحية، فما البال بباقي الزنزانات الواقعة عميقا الى الداخل، وما هو وضعها في الليل حيث لا نور ولا اضاءة، أو في زمهرير الشتاء حيث لا تدفئة، أو في هجير الحر حيث لا تكييف، ثم يخرج علينا من يقول ان مسلم تعب لأن الغرفة التي احتجز فيها لم تكن باردة أو لا يوجد فيها تكييف وهو أمر أبصم بالعشرة على عدم صحته،
ولكن ماذا نقول في جماعة استمرأت الكذب والتهويل. أعود لسجن البصرة الذي لم أجلس فيه الا بضعة ساعات، لأنهم أخذوني بالقطار الى معتقل آخر وكان في بغداد وهو سجن المخابرات العامة، وهناك بكيت بأسخن الدموع، فمن ناحية هناك بلد ضاع وهو بلدي، ومن ناحية أخرى هناك حياة تضيع وهي حياتي، ولم أكن أتصور في أسوأ أحلامي وأكثرها رداءة وكابوسية ان أنتهي في زنزانة ضيقة مظلمة، فراشي بطانية قذرة نام عليها آلاف الناس قبلي، وطعامي عدس بارد وخبزة جافة تنافس الحديد في يباستها، وتسليتي ذكريات حياتي السابقة، وعذابي البعد عن الأهل، وانتظار المجهول.
تلك يا جماعتنا، هي السجون وهي الغياهب، وهي العذاب، وهي المعاناة وهي الظلم، أما ما يعيشه ويمرّ به المحتجزون عندنا خصوصا المحتجزين مؤقتا على ذمة قضية فهو دلع ودلال عيب ان تشكو منه، وتتحدث بشأنه.كتب أحدهم تغريدة تقول: البراك مستعد لدفع الثمن نيابة عن الشعب.ونرد عليه بالقول: مشكور فلا مشكلة لنا كشعب مع السلطة، ولن نسمح للترهات بأن تدمر بلدنا الآمن، ولن نسمح بأن يضيع منا كما حدث في التسعين، الذي دفع الشهداء لارجاعه ثمنا أهم وأعظم مما سيدفعه مسلم، واذا كنتم تريدون القضاء على الفساد حقا وصدقا فليبدأ كل منكم بنفسه، ووقتها جزء كبير من الفساد سيختفي.
عزيزة المفرج
almufarej@alwatan.com.kw
“الوطن”