كيف تحاشت النرويج المرض الهولندي
فهد عامر الأحمدي
المرض الهولندي حالة رخاء زائف أصيب بها المجتمع الهولندي بين عامي 1900 و1950 حين اكتشف النفط في بحر الشمال (وتمتع بنعيمه على مدى جيلين قبل أن ينضب نهائياً)..
ففي حين تسارعت خطى أوروبا نحو الإنتاج الصناعي أصيب الشعب الهولندي بتخمة معيشية جعلته يعزف عن العمل الجاد والاقتصاد المنتج ويستعيض بالعمالة الأجنبية واستيراد السلع عوضاً عن إنتاجها (يعني مثل حالتنا هذه الأيام)..
وما زاد الظاهرة سوءاً أن عائدات النفط رفعت سعر صرف العملة الهولندية الأمر الذي رفع بدوره من أسعار السلع التي تصدرها هولندا وبالتالي عجزت عن المنافسة عالمياً (بل وجعلت المواطن الهولندي يفضل شراء السلع المستوردة كونها أقل سعراً الأمر الذي تسبب في إغلاق كثير من المصانع).. وفي ظل هذا التراجع الذي طال كافة المفاصل الاقتصادية قلت فرص العمل وارتفعت نسبة البطالة وأصبح الناس لا يتورعون عن طلب الإعانات الحكومية (وجميعها أعراض يعاني منها مجتمعنا الآن)..
ومن هنا تنبه الاقتصاديون إلى حالة المفارقة التي تحدث حين يملك شعب ما ثروة طبيعية ضخمة تتسبب في خمول الإنتاج وضعف التصنيع وقلة الحافز التنافسي بين أفراد المجتمع ودعوها بالمرض الهولندي!!
وهذه الحالة لم تكن قاصرة على هولندا فقط (التي أفاقت من كسلها بعد نضوب النفط) بل لوحظت لاحقاً في نيجيريا وأذربيجان وبريطانيا ودول الخليج (بفضل الثروات النفطية) وفي أسبانيا والمكسيك واستراليا وجنوب أفريقيا (بعد اكتشاف مناجم الذهب والألماس)… وجميعها تتلخص في اكتشاف ثروات سخية يتم الاعتماد عليها بطريقة تقضي على التنافسية واضمحلال الصناعات التحويلية واتكال المجتمع بأكمله على الدولة..
ويصبح المرض الهولندي خطيراً في حال أصيب به شعب كبير (كالشعب السعودي أو النيجيري) كون عوائد الثروة تُسّكن قطاعات إنتاجية أكثر تنوعاً وتعقيداً، في حين تقل حدته لدى الشعوب الأقل عدداً (كالشعب الهولندي) حيث الأمور أقل تعقيداً وقدرة على التدارك والإصلاح!!
أما الجميل فعلاً والموضوع الأساسي لمقال اليوم فهو ماحدث في النرويج التي تعلمت الدرس ولم تمر بنفس الحالة التي مرت بها هولندا وبريطانيا بعد اكتشاف نفط الشمال…
فالنرويج مثلهما تطل على بحر الشمال ولكنها لم تسمح (للأموال السهلة) بالقضاء على اقتصادها الإنتاجي وقدرتها التنافسية.. ولأنها في الأصل بلد ثري جداً (ويأتي في مقدمة العالم من حيث دخل الفرد) احتار النرويجيون فعلاً في كيفية التصرف بهذه الثروة الجديدة التي تدفقت بكميات تجارية في الثمانينات.. وحينها انقسم البرلمان النرويجي إلى فريقين، الأول طالب بتوزيع الثروة على عامة الناس (كما يطالب البعض لدينا هذه الأيام) والثاني عارض الفكرة خوفاً من إصابة الشعب ب”المرض الهولندي” واقترح إنفاق الثروة النفطية لتعزيز الإنتاج الوطني ومن ريعه يتمتع الناس بالرخاء والرفاهية..
وفي النهاية رجحت كفة الفريق الثاني فتم توجية عائدات النفط إلى صندوق سيادي يستثمر في الداخل والخارج، ويحق للحكومة فقط سحب 4% من رأس المال السنوي لتدعيم ميزانيتها (التي مازالت تعتمد بحد كبير على الضرائب المرتفعة)..
والنتيجة التي نراها اليوم؛ أن النرويجيين لا يتمتعون فقط بأعلى دخل فردي (وأفضل نظام صحي واجتماعي في العالم) بل ويحققون ثروات شخصية ومداخيل قومية بعيدة عن الموارد النفطية أضف إلى أن نصيب كل مواطن نرويجي في صندوق بلاده السيادي تجاوز 5 ملايين دولار يحق له السحب منه بحسب معايير احتياجية خاصة… لم يحتج إليها أحد منذ 2007…
“الرياض”