مقالات

سفريات 4 “تصدير الرفاه”

صالح الغنام
“إنهم سُخرة لنا”… كان هو عنوان مقالة كتبتها قبل نحو ثلاثة أعوام, وأعدت نشرها مرتين, وأظن أنها من أكثر المقالات التي حظيت بردود فعل واسعة لم أكن لأتخيلها, وقد يكون سبب ذلك, لكوني أول شخص يوثق على الورق واقع البؤس والشقاء والحرمان الذي تعيشه شعوب العالم الأول المتحضر في أوروبا والغرب, ويعقد مقارنة بين واقعهم المزري وواقع العز والترف والرخاء والرفاه الذي تعيشه شعوب “الخليج” المنتمية إلى العالم الثالث المتخلف. وفي مقالة أمس, التي ظنها البعض ساخرة, هي لم تكن كذلك على الإطلاق, بل كانت في غاية الإيلام, وما كتبتها, إلا لتأكيد حال الفاقة والعوز التي يعيشها شباب الغرب, والتي جعلتهم يترقبون مرور أي شخص يدخن, ليصطفوا رجالا ونساء ويشحذوا منه سيجارة!

هل تتخيلون كَسْرة النفس التي يعيشونها؟ حتى ترف التدخين صار محرما عليهم! انتبهوا, فبمقدوري أن أعدد لكم عشرات الأمثلة, ولكنني اكتفيت بالسيجارة كأدنى وأسخف وأتفه مثال يدل على الحرمان. في أمستردام, رأيت أسرا مكونة من زوج وزوجة وطفلين, يستقلون دراجة هوائية لقضاء مشاويرهم, وأمام محطات الترام والميترو والأوتوبيس, يقف الناس في طوابير لا نهاية لها, فاستئجار “تاكسي” أو امتلاك سيارة, هو حلم صعب المنال. هذا هو حالهم وواقعهم, واتركوا عنكم مسألة ارتفاع دخلهم السنوي, فرواتبهم المرتفعة لا يتسلمون منها إلا الفتات, وهي مجرد أرقام تتبخر بنيران ضرائب الدخل, والمبيعات, والاستهلاك, هذا عدا فواتير الكهرباء والماء والهاتف. وأقسم إنني حين خيرت مدير فندق في مدينة انتويرب ببلجيكا, بين ديمقراطيتهم ورفاهيتنا, قال بحسرة: رفاهيتكم بالطبع!

في دول الغرب, يمكن للمواطنين شتم رئيس الدولة, وقذفه بالبيض الفاسد, وليس الطازج, لأنهم لا يستطيعون التضحية بثمنه! ومع ذلك, نقول ماذا بعد أن تم شتم رئيس الدولة, وماذا بعد أن تم ممارسة تداول السلطة؟ هل تحسنت أحوالهم؟ هل عاشوا في رغد ونعيم؟ أبدا. لذلك, وما لم يتوقف الغرب عن مؤامراته في تحريك شعوبنا ضد أنظمتها بدعوى المطالبة بالديمقراطية وحرية التعبير, أتصور أنه بات من الضروري توجيه مبادرات مضادة ترفع شعار “تصدير الرفاه للغرب”, يتم فيها مطالبة حكومات العالم الأول المتحضر, بالالتفات إلى شعوبها المغلوبة على أمرها, والعمل على إسعادها كي تلتحق بشعوب دول العالم الثالث المتخلف وتشاركها تدخين السجائر, وشراء السيارات الفاخرة, وامتلاك منازل مكيفة الهواء, والتمتع بمجانية العلاج والتعليم, و… و… و…!

salehpen@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.