الانشغال بحروب المذاهب عن ضياع المسجد الأقصى
د. جاسر الحربش
حينما سُئل صلاح الدين عن سبب إسكان المغاربة تحديدا في تلك المنطقة من القدس التي سميت لاحقاً باسمهم، وهي أسهل منطقة لتسلل الصليبيين إلى المسجد الأقصى كان جوابه : أسكنتُ هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر وهم الذين أستأمنهم على هذا المسجد وهذه المدينة.
نقول رحم الله صلاح الدين ورحم الله تلك الأيام. بعد احتلال القدس عام 1967م مسحت إسرائيل حارة باب المغاربة من خريطة القدس؛ لتسهّل وصول اليهود إلى حائط البراق. اليهود يسمونه حائط المبكى ويعتبرونه جزءاً من هيكل سليمان. كانت حارة باب المغاربة أعرق الأحياء العربية الملاصقة للمسجد الأقصى، ولكن العرب لم ينبسوا بكلمة واحدة وبلعوها كالعادة وسكتوا.
منذ سنوات الانتفاضة الأولى تمنع إسرائيل من يقل عمره عن خمسين سنة من الدخول إلى المسجد الأقصى أيام الجمعة. يتذرعون بالأمن، لأن الشباب الفلسطيني دون الخمسين متحمس ويثير المشاكل. هذا ليس السبب الحقيقي، لكنه خطوة أولى باتجاهه. عندما يسمح للكهول وشيوخ المسلمين الفلسطينيين فقط بالصلاة في الأقصى يتوقع انتهاء ذلك يوماً ما بعجز الشيخوخة أو الموت، لكنك عندما تمنع الشباب من الصلاة في حرم المسلمين تستأصل عادة الصلاة في هذا المكان المقدس من الذاكرة. بهذه الطريقة يحصل اليهود على عدة مكاسب، الانطفاء التدريجي لعلاقة المسلمين الشباب بالصلاة في الحرم المقدس، والسيطرة المكانية الآمنة أمام العالم أثناء صلوات المسلمين المسموح لهم في الأقصى، وفي النهاية يسهل سقوط الأقصى بين أيديهم دون مقاومة تتناسب مع أهمية المكان.
في الأسبوعين الأخيرين أغلقت السلطات الإسرائيلية أبواب المسجد الأقصى في وجوه المصلين المسلمين عدة مرات. ثلاثمائة عسكري إسرائيلي اقتحموا المسجد لحراسة برلماني يهودي أراد أن يسجل بدخوله إلى الحرم الإسلامي سابقة سياسية على المستوى الرسمي، تمهيداً لاستيلاء اليهود على الأقصى.
يقول العرب المسلمون إن الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فهو بذلك عهدة في ذمتهم إلى يوم القيامة. التصرف المتخاذل حيال هذه العهدة يدل على خيانتها والتخلي عندها. ما هو السبب الذي يجعل أمة من مئات الملايين، ذات دين سماوي مقدس تتنازل عن واحد من أهم مقدسات دينها؟ السبب بكل بساطة هو أنه في العالم العربي تسيطر الأقدام على الرؤوس.
لنترك المسلمين من غير العرب في حالهم، لأن عهدة الأقصى في أعناق العرب قبل غيرهم. ما هي القيمة العددية للسكان في كافة البلدان العربية؟ الجواب حوالي أربعمائة مليون نسمة. ما هي القيمة التاريخية لهؤلاء السكان؟ الجواب : انتسابهم للإسلام كدين وللعربية كلغة. ما هي القيمة الحالية لهؤلاء بمقاييس القوة والعلم والتقنية؟ الجواب : أربعمائة مليون صفر.
ما هي الأدلة على ذلك؟ الأدلة نأخذها من واقع المنطقة، خمسة ملايين يهودي ينتجون في العلوم والفكر والاقتصاد أكثر من جميع الأربعمائة مليون عربي، عدا أن كافة الحكومات المتحكمة بهذه المئات من الملايين ترتعد فرائصها وتهتز كراسيها عند سماع اسم دولة الخمسة ملايين يهودي.
ما هي أسباب هذه المهزلة؟ هناك عدة أسباب. الأول هو أن السياسي في البلدان العربية يضع قدمه على رؤوس المواطنين ليمنع التفكير أولاً، وليكتم صرخات الألم ثانية. أما في الدولة اليهودية فيحدث العكس. المواطن عندهم يشترط على السياسي أداءً وطنياً عالياً وإلا وضع قدمه على رأس السياسي في الانتخابات القادمة. السبب الثاني هو أن الالتزام بالإسلام في البلدان العربية التزام مذهبي، وعنفوانه موجه نحو المخالف للمذهب لتأديبه أو قتله إن لزم الأمر. في الدولة اليهودية يحدث العكس. الالتزام باليهودية يركز على هدف مشترك وطني واحد. الدين في الدولة اليهودية في خدمة الوطن، ولا فرق عندهم بين الولاء للديانة والوطن. ديانتهم انتماء وطني وانتمائهم اليهودي ديانة. السبب الرابع هو أن صلاحية المسؤولية في البلدان العربية محددة بقدرة البقاء على قيد الحياة، بأي وسيلة كانت وبأي تحالفات تفرضها الظروف لإطالة البقاء في المسؤولية. لأن هذه الحالة المزمنة غير قابلة للاستبدال سلمياً، فإنها تفرض على المستفيد محاباة ورشوة الطوق المباشر من حوله لضمان الولاء. لهذا السبب تبعثر الأموال وتنهب الخزائن، مما يضطر الدول أحياناً إلى الاستدانة من الخارج بشروط فادحة. أما في دولة اليهود فهناك تحديد قانوني لصلاحية المسؤول ضمن سنوات معدودة. هكذا تنتفي الحاجة عندهم إلى الرشوة والمحاباة في الداخل. شراء الذمم والرشوة تستفيد منها الدولة اليهودية في الخارج، لصالح المواطن اليهودي.
هل بقي شيء مهم من الأسباب النوعية؟ يبقى الكثير ولكن ما تم ذكره يكفي ويفي لشرح الفرق بين سيطرة الأقدام على الرؤوس وسيطرة الرؤوس على الأقدام.