ثقافة “الضرب بالجزمة”
صلاح عيسى
بحثت في القاموس عن معنى كلمة “الجزمة” التي يشيع استخدامها في العامية المصرية كمرادف لكلمة “الحذاء”، وكنت أظن أن أصلها تركى أو فارسي ككثير من الألفاظ التي تشيع في لغة التخاطب بين العوام العرب، لكن القاموس أكد لي أنها كلمة عربية فصيحة بمعنى “الحذاء ذو الرقبة الطويلة” وهو معنى لا يختلف كثيراً عن المعنى الذى يستخدمه العوام، بصرف النظر عما إذا كان الحذاء برقبة طويلة أو دون رقبة وبرباط أو من دون رباط.
أما الذى أذكره جيداً فهو أن جزمة “منتظر الزايدى” لم تكن برقبة، ولكنها كانت برباط، وقد دخلت تاريخ الأحذية – والسياسة ـ العربية، منذ حوالى ست سنوات، وصاحبها صحافي عراقي شاب، كان يحضر -بحكم المهنة- مؤتمراً صحافياً مشتركاً جمع بين الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش الابن” ورئيس الوزراء العراقي السابق “نورى المالكي”، عقد في بغداد في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2008، حين فاجأ العالم كله الذي كان يتابع وقائع المؤتمر عبر شاشات التليفزيون، بقذف إحدى فردتي حذائه تجاه المنصة التي كان يقف خلفها رئيس الدنيا آنذاك “جورج بوش الابن” الذى تفاداها برشاقة ومال إلى الناحية الأخرى، فأصابت القذيفة العلم الأمريكي الذى كان مثبتاً على الحائط خلف الرئيسين.
وما كاد الرئيس بوش يعود إلى وضعه حتى تنبه إلى أن الهواء يحمل إليه فردة جزمة “منتظر” الأخرى، فاستطاع أن يتفاداها بالرشاقة نفسها، وطاشت كما طاشت سابقتها، كما طاشت – كذلك- اللعنات وألفاظ السباب التي أرفقها “منتظر” بكل فردة من حذائه ووجهها إلى الهدف نفسه مطالباً الرئيس الأمريكي وجيوشه بمغادرة بلاده ليعودوا من حيث جاءوا. وكان لا يزال يواصل قذفها حين أطبق حراس القاعة الأمريكيين والعراقيين عليه، فشلّوا حركته بعد أن كسروا ذراعه وقادوه حافي القدمين إلى خارجها ، بينما تحفظ فريق منهم على فردتي الحذاء، خشية أن تكونا محشوتين بالمتفجرات، وفيما بعد أصبحا دليل الاتهام أمام المحكمة التي أدانته بتهمة إهانة رئيس دولة أجنبية أثناء زيارته للبلاد، وقضت بسجنه لمدة عام واحد.
أيامها أقيمت الأفراح والليالي الملاح في جميع أنحاء العالم العربي، وخرجت مظاهرات في كثير من العواصم العربية احتفاء بالنصر العظيم الذى حققه العرب في واقعة “جزمة منتظر الزايدي” انطلقت أولاها من مدينة الصدر – إحدى ضواحي بغداد التي ينتمى إليها الحذاء وصاحبه، وظل عدد من الفضائيات العربية لأيام متصلة، يكرر بث اللقطات التي سجلت للواقعة كل عدة دقائق وأدرجتها بعضها ضمن التنويهات الثابتة التي تفصل بين برامجها وأضافتها أخرى إلى تترات نشرات الأخبار، التي تذيعها كل نصف ساعة.
واهتمت الصحف والبرامج السياسية المرئية والمسموعة برصد آراء المحللين السياسيين وأهل الفن ونجوم الرياضة، والمواطنين العاديين حول دلالة الواقعة، فأجمعوا كلهم على أنها تكشف عن روح الاحتقار والكراهية التي يكنها العرب والمسلمون للسياسة الأمريكية في عهد الرئيسين جورج بوش الأب والابن، مما أسفر عن تدمير واحتلال بلدين إسلاميين أحدهما آسيوى هو أفغانستان والثاني عربي هو العراق، وأكدوا أنها ستكون بداية لانتفاضات عربية ضد الهيمنة الأمريكية على المنطقة، واقترح أحدهم في حمىّ حماسة للنصر الذي حققه العرب في غزوة “جزمة منتظر” إقامة تمثال ضخم لجزمة “منتظر الزايدي” في كل عاصمة عربية، لكى تكون رمزاً للمقاومة والصمود.
بعد حوالى عام من ذلك التاريخ غادر “منتظر” السجن وغادر العراق كلها في رحلة نظمتها له بعض الهيئات العربية في المهاجر الأوروبية، كان من بينها العاصمة الفرنسية باريس، دعي خلالها إلى ندوة أقامها على شرفه “نادي الصحافة العربية” وخلالها فوجئ “منتظر” بصحافي عراقي آخر، اسمه “سيف الخياط” يوجه إليه فردتي حذائه واحدة بعد الأخرى مصحوبة كل مرَّة بعبارات سباب سياسية تتهمه بمساندة الفاشية وبالسعي للارتزاق منها.
وفى تبريره لما فعل قال سيف الخياط إن “منتظر” كسر قلمه ورفع حذاءه فلم يعد صحافياً ولا يجوز تكريمه في ناد للصحافة، وإنه أراد أن يرد على الجزمة بجزمة مضادة، تطبيقاً لقاعدة لكل فعل رد فعل مساو له في القيمة ومضاد في الاتجاه، وقصد أن يجعل الضمير العربي يتذوق نكهة الأحذية مرة أخرى، أياً كان الفاعل وأياً كان المستهدف، وأن ما فعله بوش مع قبحه، ورفضه له، ليس مبرراً لقبح الفعل الذى قام به “منتظر” وهبط به برسالة الصحافة إلى الحضيض وحط من شأنها ولطخ سمعة الصحافي العربي والعراقي بوحل التخلف والهمجية، ومع أنه أكد أنه ليس فخوراً بما قام به وعبر عن اعتذاره عنه، إلا أنه في رأيه كان الطريق الوحيد الذى يقنع الشارع العربي، وينسف ثقافة رمى الأحذية!
أما الذى ذكرني بهذه الواقعة وتداعياتها، فهو شيوع التهديد بالضرب بالجزمة، على ألسنة عدد من مقدمي – وضيوف- البرامج التليفزيونية، على الشاشات المصرية الخاصة، ففي ليلة واحدة من الأسبوع الماضي تابعت برنامجاً عن القدس المحتلة يستعرض آثارها وتاريخها وما يعانيه أهلها من الاحتلال أنهاه صاحبه بدعوة العرب – مسلمين ومسيحيين – إلى زيارة الأماكن المقدسة بالمدينة مستنداً إلى مبررات يمكن مناقشتها والرد عليها، وختمها بقوله إنه سيزور القدس وسيدعو الجميع لزيارتها، مهدداً من يعتبر ذلك تطبيعاً محظوراً للعلاقات مع إسرائيل، بأن يضربه بالجزمة في ميدان عام، واستفزني ما سمعته لأنني من بين الذين اعتبروا ويعتبرون زيارة القدس تطبيعاً والذين يتهددهم – بالتالي- هذا الضرب بالحذاء وهو ما دفعني للتفكير في أن ألقى بحذائي على وجه مقدم البرنامج الذى يطل علىّ عبر شاشة التليفزيون. ولأنني أجهل تماما ثقافة الضرب بالجزمة فقد فضلت أن أغير القناة. وما كدت أفعل حتى وجدت ضيفاً على الشاشة الجديدة، يؤكد أن ما حدث في 25 يناير لم يكن ثورة بل مؤامرة ويهدد من يقول بغير ذلك بأن يضربه بالجزمة، فتركتها لغيرها- وهى قناة عربية- فوجدت من يؤكد أن ثورة 30 يونيو هي انقلاب عسكري، ويتوعد من يصفها بغير ذلك بأن يضربه بالجزمة.
ولما تكاثرت الأحذية التي تتهددني لففت فردتي حذائي في خريطة للوطن العربي أعلقها على حائط غرفتي، وألقيت بها من النافذة!