مقالات

“اسحك.. احرق.. بدد.. طشر”!

صالح الغنام

في نهاية هذه المقالة, ستكتشفون أنني لم أذع سرا, أو آتي بمعلومة جديدة, وإنما فقط اكتفيت بتسليط الضوء على أهم موطن لهدر الأموال العامة, بمباركة الحكومة, وبتشجيع حار ومباشر من مسؤولي الدولة كافة. فكل العاملين في القطاعين المالي والإداري في الوزارات والمؤسسات الحكومية, مروا بالتجربة ذاتها التي مررت بها يوم كنت أعمل في إحدى مؤسسات الدولة, وجميعهم يعلم الكيفية التي يتم بها رصد الميزانية التقديرية الخاصة بمصروفات كل قطاع في الوزارة أو المؤسسة, للسنوات المالية المقبلة, والتي غالبا ما تتم ارتجالا, وبشكل غير علمي, وغير مدروس, ولا يمت للحاجة الفعلية بصلة!
“السنة المالية الأخيرة, كم كان المبلغ المرصود?” “أوكي, حط نفس المبلغ”. “يا أخي, زيادة الخير خيرين, ضاعف الميزانية فقد نحتاجها لأمر آخر”… هذه العبارات وما شابهها, هي بالضبط ما يتم تداوله اثناء إعداد الميزانية التقديرية الخاصة ببند المصروفات عند كل سنة مالية جديدة. ورغم ما في هذه العملية من ارتجال, و”سبهللة”, و”كرْوَتَه” وسلق بيض, وانعدام رقابة, وغياب متابعة, وجهل بالمسؤولية, وفشل إداري مريع. إلا أنها لا تأتي شيئا, ولا تقارن بما يتم ويجري خلال الاشهر الأربعة الأخيرة قبل نهاية السنة المالية. فبكل الأحوال, ومهما بالغ المعنيون بأرقام مصروفات قطاعاتهم, فهي ستعود لخزينة الدولة بصورة وفر مالي, في حال لم يمسسها ضر!
إلا أن الطامة الكبرى, تبدأ بالثلث أو الربع الأخير من السنة المالية القائمة, وكما أن لإعداد الميزانية التقديرية, عبارات مسجلة. فللربع الأخير من السنة المالية القائمة, عبارات ومفردات تأتي على شكل تعليمات شفهية تصدر من المسؤولين, مثل: “اسحك, احرق, بدد, طشر”. ويقصد بها, حرق كل ما تبقى من رصيد في حساب المصروفات, بأي شكل, وبأي صورة. وأعذارهم المتفاوتة في ذلك, كي لا يقال أن المسؤول فشل في تقدير مصروفات قطاعه, أو لخشيته من عدم الموافقة على ميزانية المصروفات للسنة المالية المقبلة, لكونه لم يستغل بشكل أمثل مصروفات السنة المالية السابقة. وعلى هذا, يمكن ملاحظة “الحراك” الذي يدب فجأة في قطاعات المشتريات والصيانة, خلال الاشهر الأربعة الأخيرة من كل سنة مالية, وذلك, لحرق آخر قرش في حسابات المصروفات!
هذا السلوك الغريب والمشين, والذي يمثل أقصى درجات العبث بالمال العام وعدم صون النعمة, وانعدام الشعور بالمسؤولية الوطنية, تشجع عليه الحكومة حتى لو لم تعترف بذلك, بل أراها تحض القياديين عليه, وتكافئهم على ذلك, وهذا الاتهام, لا يحتاج إلى دليل, فقد أمضيت في الوظيفة نحو ثلاثة عقود, ولم أشهد يوما, أن حوسب مسؤول, أو قيل له: “هووب, توقف, ماذا تفعل?” بل على العكس, فقد رأيت من يزجر مسؤولا بشدة, لأنه رصد ميزانية لمصروفات قطاعه, فاكتشف لاحقا عدم حاجته لها, فكان التوبيخ جزاءه!

salehpen@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.