مقالات

الديموقراطية وسماسرة السياسة

راكان بن حثلين

في كل عام، تظهر معالم جديدة في مختلف دول العالم، بما فيها الدول التي نسميها «فقيرة»، وتولد مشاريع عملاقة من رحم ارادة شعوب وحكومات تلك الدول، لتصنع شاهدا على التحدي ومقارعة الظروف والمعوقات من أجل صناعة واقع جديد، يخلق لتلك الدول اقتصادات قوية تجعلها غنية بالموارد المالية من مصادر متنوعة، والاهم من ذلك كله، تعزيز ثقة تلك الشعوب بقدراتها وامكاناتها التي يمكن أن تتفجر من خلال العمل الجماعي.

وفي كل عام، نعود بعد زيارة تلك الدول، ونحن نحمل في قلوبنا الحسرة على الواقع الذي تعيشه الكويت، من التراجع على مختلف المستويات، وغياب الرؤية الاستراتيجية للنهوض بواقع البلد في مختلف المجالات، ولا سيما في المجالين الاقتصادي والتنموي، على الرغم من الوفرة المالية التي تحققت خلال السنوات الماضية، والتي يمكن ان توظف في انشاء «كويت جديدة» بالكامل، تكون الأفضل والأجمل على مستوى الخليج، وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل البعيد، والقريب الذي ينذر بعجز مالي مرتقب بعد 8 سنوات حسب التوقعات الحكومية.

وللأسف الشديد نجد أن الديموقراطية التي يفترض أن تكون وسيلة لتحسين واقع الشعوب والمجتمعات، وتنظيم الحياة السياسية بما يكفل تحقيق العمل الجماعي الرشيد في بناء وادارة الدولة، تتحول الى عائق لتنمية البلد، وحمل ثقيل يزيد من الأعباء التي تثقل سير المشاريع التنموية، بل وحتى زيادة كلفتها المالية، لأن الكثير من «الديموقراطيين» لدينا هم في الأساس تجار، او أدوات لأطراف تجارية واقتصادية تتصارع فيما بينهما، وتجعل من المشاريع أدوات لتصفية الحسابات، أو لتضخيمها.
ولذلك، نجد أن مشاريع رابحة مثل شراكة «الداو كيميكال» تتحول الى مشاريع خاسرة تتراجع الدولة تحت الضغط- عن التعاقد فيها، ثم تصبح مشاريع رابحة بعد تبدل المزاج السياسي، وبعد أن «طارت الطيور بأرزاقها» ولكنها تكبد الدولة خسائر بمئات الملايين، بدلا من أن تكون رافدا اضافيا للاقتصاد الوطني.
ومشاريع أخرى كـ«المصفاة الرابعة» ترد كأولويات في برامج عمل الحكومة، ثم تتحول الى مواضيع آجلة «وغير مهمة» في نظر الحكومة عندما تصطدم بتصارع «الحيتان» على هذه المشاريع، وتعجز عن مواجهتهم بقرار شجاع وجريء، يغلب الصالح العام على «الكراسي» أو على خسارة بعض المصالح والعلاقات، وتبقى هذه المشاريع في خانة الآجل من الأمور لعشرات السنين على الرغم من حاجتنا الاقتصادية الماسة لها.
أما اذا أرادت الحكومة، أو اذا توافق المزاج الحكومي مع المزاج السائد في البرلمان، فنجد أن المشاريع تسير بسرعة البرق، بغض النظر عن جدواها الاقتصادية، او جودة تنفيذها، حتى وان تبين بعد انتهاء مرحلة جني الأرباح أن هذه المشاريع ما هي الا «خرائب» مهجورة، لا جدوى منها ولا نفع، أومبان آيلة للسقوط، أو تحتاج الى صيانة بمبالغ ربما تعادل كلفة بناء هذه المشاريع كما حصل في «استاد جابر».
الواقع الذي نعيشه في البلد، هو أن الممارسة الديموقراطية لدينا «مشوهة»، اذ جعلت دائرة الانتفاع «العام» تضيق في مقابل اتساع دائرة الانتفاع «الخاص» والمصالح الضيقة، وحولت الكثير من السياسيين الى مقاولين وسماسرة، تضاعف عمولاتهم ونسب انتفاعهم، تكاليف المشاريع التنموية.
هذا الواقع الذي نعيشه، يجعل الكثيرين يقارنون واقعنا الاقتصادي والتنموي، بالواقع الاقتصادي والتنموي للدول المحيطة، ولا سيما الدول الخليجية التي نشترك معها في الظروف المناخية والاستراتيجية، وتعتمد مثلنا تماما على النفط كمصدر رئيس للدخل، ولكننا نختلف معهم في الحياة السياسية، وفي نفس الوقت نتخلف عنهم في النهوض التنموي المتسارع.
ففي هذه الدول، لا تضطر الحكومات الى استرضاء السياسيين من أجل تمرير المشاريع، ولا تتفاقم التكاليف بسبب العمولات التي تدفع لـ«سماسرة السياسة»، ولا تتبدل خارطة الأولويات بتبدل الوجوه والمصالح الضيقة.
النتائج من هذه المقارنة بالتأكيد سلبية، احباط وانكسار، يدفع البعض الى التخلي عن الديموقراطية، والمناداة بتطبيق «الديكتاتورية» من أجل الخروج من حالة الشلل التي تعاني منها البلاد.
ربما تكون هذه النتيجة هي التي تريدها بعض الأطراف، ولذلك تعمل على تشويه العمل الديموقراطي من أجل كفر الناس بالديموقراطية، ولكن لهؤلاء نقول، اننا متمسكون بالنهج الديموقراطي الى الرمق الأخير، وان الشعب الكويتي لا يمكن أن يفرط بمكتسباته مهما طالها من تشويه، وان هذا الشعب قادر على اصلاح الاعوجاج السياسي، وأنه طال الزمن أو قصر، فان وجوهاً ستفنى ووجوهاً ستحترق ووجوهاً ستشرق مع واقع جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.