الدعم والظروف!
صالح الغنام
منذ سنوات مراهقتي الأولى, وأنا مبهور إلى حد الافتتان بشخصية الأمير عبدالرحمن بن معاوية, المعروف باسم: عبدالرحمن الداخل, أو صقر قريش. وكنت أعجب, كيف لفتى يتيم أعزل, قطع النهر سباحة, مريض بالرمد, شبه ضرير أو نصف أعمى, مشرد وطريد, مطلوب رأسه حيا أو ميتاً, ظل ست سنوات يتنقل متخفيا ما بين ديار المغرب ومضارب قبائلها, كيف لهذا, وهو شاب لم يتجاوز عمره 25 عاما, أن يؤسس دولة استمرت لمدة ثلاثة قرون. أي أكثر بنحو ضعفين من مدة بقاء الدولة الأموية التي أنشأها أجداده في الشام!
أمر عجيب بالفعل, ولولا اليقين بصحة ما ذكره التاريخ, لظننت أن عبدالرحمن الداخل, ما هو إلا شخصية أسطورية, سطرها خيال كاتب… الشاهد أنني وبعدما وصلت إلى مرحلة النضوج, وبعدما توسعت في قراءاتي, طرأت متغيرات كثيرة على طريقة تفكيري, وتقييمي للأمور, فاكتشفت أسباباً عدة لنجاح عبدالرحمن الداخل, ومن شابهه من شخصيات عظيمة تحقق على أيديها إنجازات – سواء بالشر أو الخير – ظلت ماثلة وحاضرة في تاريخ البشرية.
أهم تلك الأسباب, “الدعم والظروف”. فلو لم يتلق عبدالرحمن الداخل, “الدعم” من أخواله البربر الذين وفروا له الحماية, ولو لم تدعمه القبائل اليمنية في الأندلس, التي نصرته نكاية وانتقاما ورغبة في الثأر من القبائل الأخرى. ولو لم تكن “الظروف” مواتية في الأندلس وقد كانت غارقة في النزاعات القبلية, والانشقاقات وحركات التمرد على الولاة, لما نجح عبدالرحمن في إنشاء دولته… ما أقوله هنا, لا يقلل من أهمية الصفات الشخصية, كالنبوغ والذكاء والمثابرة والمكر والدهاء, فهذه صفات تعتبر الأساس الأول لأي نجاح على المستوى الشخصي, لكن يستحيل أن تحقق نجاحات عظيمة وتاريخية بمعزل عما وصفناه ب¯ “الدعم والظروف”.
قصدي من كل هذا, أنني لاحظت – مع الفارق طبعاً – كثيراً ممن يبالغون في وصف بعض الشخصيات التي وصلت بشكل سريع إلى أعلى المناصب في الدولة, وتمكنت من إحكام سيطرتها على دوائر صنع القرار, وتحولت خلال فترة وجيزة إلى مركز نفوذ لا يُقارع ولا يقهر, ويعزون ذلك, إلى عبقرية ودهاء تلك الشخصيات. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق, بل إنني أرى في ترديده محاولة خبيثة للتخذيل وتيئيس الناس. فلو استعرضنا أوضاع المرحلة السياسية الحالية, لوجدنا أن “الدعم والظروف” – وليس الذكاء – هما من خدما تلك الشخصيات وأوصلاها إلى ما وصلت إليه… شكرا, واعذروني لعدم التوضيح أكثر, وهذه توصية مني لكل ذكي, بعدم الاعتماد على ذكائه, وإهمال هذين العنصرين!