مقالات

دلع المفتي تكتب: عن التي دخلت قلبي برغيف خبز

قيل «الصديق الحقيقي هو من يرى أول دمعة، يلتقط الثانية ويمنع الثالثة».

كانت زميلة لي في المكتب، سيدة جميلة، لطيفة، تدخل القلب من دون استئذان. كنا نتشارك قصصنا الصغيرة، همومنا وشجوننا. نشرب كل صباح وقبل بداية العمل فنجان قهوة، نختصر حكاياتنا، نتبادل الآراء، ثم نتجه إلى عملنا.

في يوم من الأيام، دخلت المكتب وبيدها صرة من الورق. وضعتها فوق مكتبي، وأمرتني: كلي. فتحت الصرة وإذ فيها رغيف من خبز التنور محشو بجبن أبيض وبعض الخضروات الورقية. كان منظر الرغيف الحار والجبنة والخضروات فوقه شهياً، ويدعو لإفطار لذيذ غير متوقع. لكنني استغربت. ما الموضوع؟ قالت: كلي بدون نقاش.

أذعنت ولم أجادل، ولم أبحث حول ذاك الرغيف اللذيذ، التهمته بشهية وبطيبة خاطر، وبعد أن انتهيت، شرحت لي صديقتي أن ما فعلته كان نذراً نذرته لي آملة أن يتحقق ما كنت أنتظره حينها، وعندما تحقق كان لا بد أن توزع الخبز وفاء لنذرها. قالت: إن هذا الخبز يسمونه في العراق «خبز العباس». وهو عبارة عن أرغفة من خبز التنور تلف داخلها أعواد من البقدونس، الكرفس، الجرجير، النعناع، وقطعة من الجبنة البيضاء، وتنذر الكثير من العائلات العراقية خبز العباس على نية قضاء حوائجها؛ رجوع غائب، نجاح طالب، الحصول على وظيفة، حمل، أو زواج.

بعد ذاك الرغيف الحار، عرفت معنى الصداقة، بل وذقته، وأدركت أن الصديق الحقيقي نعمة لا يقدرها إلا من عرف قيمتها وحلاوتها. فالصديق هو من يشاركك ترحك قبل فرحك، ويقاسمك همك قبل لقمتك، هو من يجبر كسر قلبك ويفرش لك كتفه وسادة ترخي عليها همومك ودموعك.. تلك الصديقة كانت تعاني لمعاناتي وسعت -بطريقتها- للتخفيف عني ونذرت أن يتحقق حلمي من دون أن أدري. وعندما تحقق فرحت لفرحي، ورقصت لسعادتي، ووزعت خبز العباس.

مرت على تلك الحادثة سنون طويلة، بقيت صداقتنا رغم كل شيء. أتى الغزو، وفرقنا. هاجرت صديقتي لسنوات، ثم عادت إلى الكويت، التقينا عدة مرات أحيانا بموعد وغالبا بالصدفة. ثم شاءت الأقدار أن نجتمع على سبب أقوى وأعمق. تشاركنا المرض، فأصبحنا أنا وهي و«السرطان» صحبة ثلاثية، نجتمع معاً، نتجادل، نقارن أعراض مرضنا، علاجاتنا، نسخر من أنفسنا وتشجع إحدانا الأخرى على المقاومة والانتصار على «مقصوف الرقبة».
الأجمل في قصة السيدة -التي دخلت قلبي برغيف خبز- أنه بعد كل هذه السنين وإلى يومنا هذا، أنا غير متيقنة من دينها، ولا أعرف ولا يهمني أن أعرف مذهبها.

يقول ابن الفارض:
وعن مذهبي في الحب مالي مذهب
وإن ملتُ يوماً عنه فارقت ملّتي
عزيزتي ليلى.. سواء كنت مسلمة، مسيحية، ايزيدية، سنية، شيعية.. أحبك كما أنت.

جريدة القبس
دلع المفتي
d.moufti@gmail.com
@dalaaalmoufti

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.