دلع المفتي تكتب: كوب حليب
ازرَعْ جَميلاً ولو في غَيرِ مَوضِعِهِ
فَلا يَضيعُ جَميلٌ أينَما زُرِعا
إنَّ الجَميلَ وإن طالَ الزَّمانُ بِهِ
فَلَيس يَحصُدُه إلّا الذي زَرَعا
هناك قانون حياتي يغفل عنه البعض يسمى «الدوران»، أو «الدنيا دوارة»، مفاده أن كل ما تفعله سيعود إليك سواء خيرا أو شرا، ولو بعد حين.
في أمسية من أماسي رمضان، توقفت ابنتي الصبية في محطة للوقود لتعبئة خزان سيارتها، الذي يكاد يكون فارغا. ما أن انتهى العامل من عمله، طلب منها ستة دنانير. فتحت «مقصوفة الرقبة» محفظة نقودها فوجدتها خالية. حاولت الدفع ببطاقتها البنكية، لتفاجأ أن حسابها «مصفّر» أي فارغ.
ارتبكت صغيرتي، فاتصلت بوالدها (طبعا)، الذي حول لها فورا مبلغا صغيرا من المال على حسابها عبر الانترنت. حال ما نزل المبلغ في حسابها نادت العامل لتعطيه بطاقتها مجددا، لكن العامل رفض البطاقة مبتسما، وقال لها: «خلاص.. بابا في سيارة هناك دفع فلوس»، التفتت الصبية لتجد سيارة سوداء تخرج من محطة الوقود بسرعة.
كانت ابنتي تحكي لي قصتها، وهي في قمة الحرج: «ماما كدت أبكي من خجلي، كيف لغريب أن يدفع عني؟ وكيف عرف ذاك الرجل أني في ورطة، وكيف تصرف دون حتى أن يكلمني؟». هونت على ابنتي قائلة: الحمد لله، ما زالت الدنيا بخير. لا بد أنك فعلت أمرا مماثلا، فدار ودار وعاد لك.
سكتت لبرهة ثم عادت لتحكي لي عن حادثة حصلت معها في مدينتها الأميركية، حيث تدرس. تقول: كنت أقف في طابور أنتظر دوري لشراء الكعك. أمامي كان هناك رجل كبير في السن يعد عملات معدنية، وعندما انتهى طلب كعكة، ثم سأل عن سعر كوب الحليب. عندما أجابته الموظفة، اعتذر وقال «الكعكة فقط». عندما وصل دوري لأطلب، طلبت طلبي وكوبا من الحليب، ثم طلبت من الموظفة ان تعطيه للرجل بعد أن أترك المحل.
ابتسمت في وجه ابنتي، هل رأيت؟ «ما يذهب بعود إليك»، سواء جيدا أم سيئا. لا تظني أن ما فعلتيه ذهب هباء منثورا.. الله سخر لك ذاك الرجل الشهم لينقذك من ورطتك، كما سخرك للرجل الكبير لتحنّي عليه بكوب حليب.
أثناء حديثنا، تذكرت السيدة المصرية في برنامج الصدمة (الذي غنانا عن البرامج الوعظية وخطابات مشايخ الفضائيات المستهلكة)، وردة فعل تلك الحنونة وبكائها ودفاعها عن العاملة الفلبينية، التي كانت تعنف بقسوة من سيدتها. عندما سألها المذيع: لماذا تدخلت ودافعت عن العاملة بكل حنان؟ قالت: «الرحمة، أنا بعملها علشان ألاقيها، إذا ما عملتش، مش حلاقي. أنا عايزة حد يقابل ابني عنده رحمة».
نحن لا نحصد إلا ما زرعنا، وإن زرعنا الحب والخير والرحمة، فسنجدها لنا ولأحبابنا ولأولادنا. فكل ما نقدمه يذهب، ثم يعود إلينا، هو كوب حليب في النهاية.. دعوه يدور.
*ولك أيها الرجل الشهم، شكرا لكوب الحليب الذي «حنيت» به على صغيرتي.
دلع المفتي
جريدة القبس
d.moufti@gmail.com
@dalaaalmoufti