“إعلام الدم”.. يجلب الدم
“الدم لا يجلب إلا الدم” مقولة اختبرها التاريخ مرارا وتكرارا. ويخشاها العارفون بطبائع النفوس الإنسانية المجبولة على الثأر والانتقام كثيرا. ولكن اليوم- تحديدا- وبينما يعيد الإرهاب ودعاته توظيف المقولة لمزيد من القتل والتحريض. فلا مبرر لوقوع الإعلام بشقيه الفردي والمؤسساتي في الفخ مرة أخرى؛ فقط لاختزال الوقت وإثبات التميز بادعاء الأسبقية. فهذا مما لا يحمد عقباه. وما يضاف لأدوات كراهية جديدة يمكن فهم ولع التنظيمات الإرهابية بها. ولكن انسياق مجموعة من الأفراد في مواقع التواصل أو المؤسسات الإعلامية ليكونوا ضمن “دعاية” التنظيمات في بث الصور المروعة يبقى أمرا غير مبرر. لا أخلاقيا ولا مهنيا.
إثارة مبتذلة
وهو ما تتجنبه مؤسسات صحافية عالمية عند تجنبها- عن إدراك ووعي- نشر مقاطع لحظية أو صور دموية متداولة. واستحضار فداحة الموقف الكارثي لتقديم المساعدة إعلاميا وإنسانيا دون إثارة مبتذلة؛ لأن “التطبيع مع الموت” ومع مشاهده المتكررة هو جل ما تصبو له “أدبيات التوحش”. التي يروج لها تنظيم “داعش” وغيره من التنظيمات الشبكية المتطرفة حول العالم.
والتي تعرف اليوم من قبل مختصين بتنظيمات الجيل الثالث أو بالذئاب المنفردة. إذ لم تعد ترتبط بحدود جغرافية أو مرجعية محددة ومعلومة، كما كان الحال مع تنظيمات إرهابية سابقة كان لها بالضرورة مخيمات تدريب وقيادات هرمية تنضوي تحت لوائها وتأتمر بأمرها. فيما الجماعة بمجملها منقطعة عن العالم الخارجي في ظلمات الكهوف وبعيدا عن الأضواء.
ولكن في المقابل، تسعى تنظيمات التطرّف الشبكية اليوم لمزيد من “الضوء القاتل” بالمعنيين المجازي والحرفي للكلمة. وهذا ما يوفره اتصال إنترنت دائم وأفراد مشوشون يحدثون أنفسهم بالموت بشكل مستمر. أفراد متطرفون أو قابلون للتطرف متناثرون في مجتمعاتهم وحول أجهزتهم المحمولة والثابتة حول العالم. دون هدف واضح في هذه الحياة. فقط في انتظار مزيد من الصور والعنف. ومزيد من الشحن الدموي. تزينه أفكار دينية أو أيديولجية تحريضية، ليكتمل مشهد التطبيع مع الموت. في قرار فردي بالخلاص والمشاركة في هذه المسرحية الشبكية العبثية. إما نحرا أو حرقا أو دهسا. تعددت سبل الدم والإرهاب واحد.
تغذية بصرية
وما هذا التفنن في الوحشية الإرهابية الذي نشهده اليوم من قبل المتطرفين إلا خلاصة تغذية بصرية طويلة ومستمرة. لا يمكن تجاهل دور الإعلام الاجتماعي واللا اجتماعي، المسؤول واللا مسؤول فيها. حين يصبح مطية دعائية– علم بذلك أم لم يعلم- لتمرير مشاهد يعتقد أن الغرض منها تعزيز إدانة وحشية هذه التنظيمات من جهة. وزيادة في قصة الإثارة والتشويق التي يريدها لمطبوعته أو قناته التلفزيونية أو حسابه الشخصي من جهة أخرى. فيما التجارب والوقائع تثبت- حادثة بعد أخرى- أن هذه المشاهد والصور مورد إضافي وأداة عظيمة للتطبيع مع الموت والإحساس بالنشوة و”الجدوى”، التي يحتاج إليها متطرف آخر. لتنتقل عدوى هذا الفيروس، عوضا عن محاصرته وعزله.
لم يعد الإخبار بحدث ما أمر تختص به المؤسسات الإعلامية. وبات ينازعها عليه أفراد متعددون. منهم من يحمل ما يؤهله لذلك. ومنهم من لا يملك سوى هاتف “ذكي” وحساب شخصي في موقع اجتماعي. يعتقد أنه من خلالهما فقط يكفي أن يكون إعلاميا ينافس الآخرين على نقل الأخبار والتفرد بعرضها أولا بأول. تحت عبارة فضفاضة روج لها كثير بمسميات مختلفة منها، “الإعلام الجديد” و”المواطن الصحفي”. اللافت أنه عند عتبة هذا النوع الجديد من الصحافة قتل “حارس البوابة”؛ النظرية الأشهر في الإعلام التي تعنى بتدقيق المعلومة ومراجعتها قبل عرضها. ليتسابق الجمع لموقع الحدث في تجمهر غوغائي. انعكس في رمزه وفعله على واقع إعلامي حديث. لا اعتبار فيه لحرمة الدم أو خصوصية الفرد، فضلا عن تحري المصداقية ودقة المعلومة.
محاصرة «الفيروس»
في الكوارث الإرهابية كما الكوارث الطبيعية. المعلومة الصحيحة وسلامة المواطن أهم من عامل الوقت والتنافس على الأسبقية بغرض رفع عدد المشاهدين أو المتابعين. إذ يجب أن يستشعر المواطن والإعلامي أن مسؤوليته في نقل أخبار مثل هذه الحوادث لا تقل عن مسؤولية الفرق الطبية والأمنية في بث الطمأنينة والتخفيف من وقع الألم. باحترام الضحايا وذويهم وعدم التطفل على أحزانهم والرقص على مصائبهم بحثا عن الإثارة والتشويق.
يبقى أنه كي لا تتفشى “أدبيات التوحش” في المجتمع- كما يريد لها الإرهابيون والمتعاطفون معهم. وحتى يمكن محاصرة فيروساتها. يجب تحصين الأفراد والمجتمعات من مشاهد القتل وفظائعه. بالتقاط الزوايا الملائمة. والكلمات المناسبة. وبالعمل فكرا وتشريعا على وأد الكراهية ومسبباتها. وكل ذلك لا يكتمل إلا بإعلام مسؤول. يجيد اختيار صوره وكلماته؛ إعلام يعرف متى وكيف يضع يده على الجرح ليطببه دون أن يثيره أو ينكأه.