التحدي الانفصالي في “كتالونيا” وجها لوجه أمام تدابير دستورية غير مسبوقة
كما كان متوقعا قررت الحكومة الاسبانية تفعيل إجراءات دستورية قاسية لوقف الزحف الانفصالي في (كتالونيا) بعد عدة مناورات هدفت إلى ردع رئيس الإقليم عن مساعيه الانفصالية ومسلسل توتر دام سنوات قبل ان يبلغ ذروته مطلع الشهر الجاري.
وللمرة الأولى في تاريخ إسبانيا الديمقراطي عمدت الحكومة الاسبانية إلى تفعيل البند 155 من الدستور الاسباني (1978) الذي يمنحها صلاحية اتخاذ آليات ذات طبيعة استثنائية وصارمة لإلزام أي إقليم إسباني متمرد على تنفيذ واجباته والالتزام بالدستور مع العلم ان تفعيله كان محاطا بكثير من التروي والحيطة والتحذير.
وقال رئيس الوزراء الاسباني ماريانو راخوي في مؤتمر صحفي أمس السبت ان حكومته لم ترغب أو تنو يوما تطبيق البند 155 لكنها كشأن أي حكومة في أي بلد ديمقراطي آخر لا يمكنها السكوت عن اختراق الشرعية وانتهاك الدستور كما فعلت (كتالونيا) في الآونة الأخيرة.
وأوضح راخوي ان الهدف من تفعيل ذلك البند يتمثل في أربعة أمور هي إعادة الشرعية إلى (كتالونيا) واستعادة التعايش السلمي بين المواطنين ومواصلة التعافي الاقتصادي الذي بدأته اسبانيا منذ أعوام واجراء انتخابات إقليمية بعد العودة إلى الأجواء الطبيعية.
وقال ان الحكومة قررت في ذلك الصدد اتخاذ أربعة تدابير يتجسد الأول في تعليق مهام رئيس الإقليم كارليس بويجديمونت ونائبه وجميع مستشاريه وأفراد حكومته وتسليم مهامهم لأفراد ستعينهم حكومة مدريد للعمل تحت سلطة وزارات الدولة المختلفة علما ان بويجديمونت سيواصل كونه نائبا في البرلمان الكتالوني.
ومن جهة أخرى أكد انه لن يعلق الحكم الذاتي للمنطقة موضحا ان البرلمان الكتالوني الاقليمي سيواصل ممارسة الدور التمثيلي المنوط به لكنه لن يتمكن من طرح أي مبادرة تتعارض مع القانون أو الدستور كما لن يكون بإمكان رئيسته ترشيح أي شخص لرئاسة الإقليم وسيتم تقليص صلاحياتها في حين أكد ان الإدارة العامة في كتالونيا ستواصل مهامها الاعتيادية لكنها ستعمل بموجب أوامر من سلطات مدريد.
وأخيرا اوضح راخوي ان التدبير الرابع والأخير يتجسد في الدعوة إلى الانتخابات في أسرع وقت ممكن عندما تعود الأمور إلى طبيعتها في (كتالونيا) مشيرا إلى ان الدستور الاسباني يمنحه صلاحية حل البرلمان الكتالوني والدعوة للانتخابات في الإقليم في حين أوضح ان ذلك سيتم في مدة أقصاها ستة أشهر. ولن تنفذ تلك التدابير حتى تحظى بموافقة الأغلبية المطلقة في مجلس النواب الاسباني الأمر الذي لن يشكل عائقا بكل الأحوال لأن الحزب الشعبي الحاكم بقيادة راخوي يتمتع بتلك الأغلبية عند 149 نائبا في المجلس المؤلف من 266 نائبا.
وسيبدأ مجلس الشيوخ مناقشة تدلك التدابير اعتبارا من يوم الثلاثاء المقبل وسيصوت عليها يوم الجمعة المقبل وسيتم بعد ذلك بالفعل تطبيق تلك التدابير وتعليق مهام بويجديمونت وبدء العد العكسي للانتخابات الإقليمية التي ستكون للمرة الأول رهن إشارة رئيس الوزراء الاسباني وليس الرئيس الإقليمي.
لكن الحزب الشعبي لا يخوض وحده غمار هذه المعركة بعدما سعى جاهدا لضمان تأييد حزب العمال الاشتراكي الإسباني المعارض منذ البداية وحصل عليه في نهاية المطاف ليس لحاجته إلى تأييد في مجلس الشيوخ (62 نائبا) بل للتأكيد على وحدة الصفوف والتوافق بين الحزبين اللذين طالما تناوبا على السلطة لمنح قوة أكبر للموقف.
وشكل تأييد الزعيم الاشتراكي بيدرو سانشيز لموقف راخوي بشأن تفعيل البند 155 من الدستور امتعاضا كبيرا في بعض أوساط الحزب الذي طالما دافع عن تطبيق النظام الفيدرالي في إسبانيا وتسبب أمس في استقالة رئيسة بلدية مدينة (كتالونية) عضوة في اللجنة التنفيذية الاتحادية للحزب كما أرسل عدة رؤساء بلديات كتالونية أخرى بيانا إلى سانشيز يعربون فيه عن رفضهم الكامل لتطبيق البند ليكون صمود الاشتراكيين في موقفهم عاملا حاسما آخر لاسيما ان الحزب مازال يتعافى من جروح حديثة العهد.
وبالنسبة للأحزاب الأخرى فان ثالث أكبر الأحزاب في البرلمان الاسباني ائتلاف (أونيدوس -بوديموس) اليساري الراديكالي دافع منذ اللحظة الأولى عن تنظيم استفتاء متفق عليه في (كتالونيا) والسماح للشعب الكتالوني بالتعبير عن رأيه بحرية معتبرا ان تطبيق البند 155 اسقاط للديمقراطية في (كتالونيا) في حين ان رابع أكبر حزب سياسي (ثيودادانوس) الموالي للحزب المحافظ كان من أكبر المدافعين وأولهم عن تطبيق البند 155.
وبعدما كشف راخوي عن أوراقه أمس السبت فإن بويجديمونت مازال أمامه خمسة أيام لاتخاذ خطوات لمنع تطبيق البند 155 ويرى كثيرون ان بإمكانه قطع الطريق على راخوي بالإعلان بنفسه عن حل البرلمان الكتالوني وتنظيم انتخابات في الإقليم.
وذلك أمر سيقبله المحافظون والاشتراكيون وحزب (ثيودادانوس) الذين يشكلون معا 254 نائبا في مجلس النواب الاسباني (من أصل 350 نائبا) ويمثلون 16 مليون صوت وسيعتبرونه عودة إلى الشرعية الدستورية الأمر الذي سيعلق حالا تطبيق المادة 155 وتجنب آثارها وأبعادها غير المعروفة. لكن ذلك يبدو أمرا غير محتمل ليس فقط لأن بويجديمونت الصحفي السابق والانفصالي منذ شبابه قطع الطريق كله وصولا إلى هذه اللحظة وتجاهل جميع الفرص التي قدمتها الحكومة لوقف التصعيد بل أيضا بسبب رده ورد رئيسة البرلمان الكتالوني كارما فوركاديل على اعلان راخوي أمس السبت.
واعتبر بويجديمونت ان التدابير التي أعلنتها حكومة مدريد هي محاولة “لتصفية الديمقراطية والحكم الذاتي للمنطقة” فيما وصفها ب”أمر غير مقبول” و”اقوى ضربة ضد كتالونيا منذ عهد الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو” مؤكدا ان كتالونيا “ستدافع عن نفسها وعن مؤسساتها بشكل سلمي وبروح مواطنة عالية كما فعلت دائمًا”.
وأعلن الرئيس الاقليمي انه سيطلب من البرلمان الإقليمي تقييم تدابير الحكومة وبحث الرد المناسب عليها معتبرا ان حكومة مدريد “نصبت نفسها بشكل غير شرعي ممثلة للكتالونيين”.
ويأتي خطاب بويجديمونت ذلك بعد يومين من تأكيده انه “إن مضت الحكومة الاسبانية قدما في سياسة القمع ورفض الحوار فإن البرلمان الكتالوني سيقوم بالتصويت على الاستقلال عن إسبانيا الذي لم يكن صوت عليه في 10 أكتوبر الجاري” في تحد صريح لراخوي رغم انه أكد بعبارته تلك انه لم يكن أعلن الاستقلال عن إسبانيا بعد.
من جانبها أعلنت فوركاديل أمس السبت انها ستدافع عن الصلاحيات والحقوق الكاملة للنواب ال135 الذين يشكلون المجلس ورفضها الكامل للقيود التي تعتزم مدريد فرضها من خلال تطبيق المادة 155 من الدستور.
وشددت على انها لن تعطي أي خطوة إلى الوراء لأن المواطنين انتخبوا ذلك المجلس فيما وصفت قرار راخوي بتطبيق المادة 155 من الدستور بضربة للديمقراطية وانقلاب سلطوي. وعلى الجانب الآخر لا تستبعد حكومة مدريد قيام بويجديمونت بإعلان الاستقلال حقا خلال الأسبوع المقبل تنفيذا لتهديده الأخير علما ان النيابة العامة الاسبانية تحضر حاليا شكوى لتقديمها أمام المحكمة الدستورية الاسبانية ضد الرئيس الإقليمي بتهمة العصيان والتمرد رغم ان (كتالونيا) صماء تماما أمام قرارات الدستورية.
وكانت نائبة رئيس الوزراء الاسبانية سورايا ساينث دي سانتاماريا أكدت للصحفيين امس ان أحد التدابير التي صادقت عليها الحكومة الاسبانية أمس السبت تنص على قطع الأجور الشهرية لأي فرد في حكومة (كتالونيا) أو أي موظف آخر يتمرد على التدابير المتخذة والتي ستطبق في الأيام المقبلة. وفي غضون ذلك كله يستمر نزوح الشركات عن (كتالونيا) ليبلغ عدد المؤسسات والبنوك التي نقلها مقراتها الاجتماعية أو المالية إلى مناطق أخرى في إسبانيا أكثر من 1200 شركة في حين تتوالى البيانات حول انخفاض الحجوزات السياحية ومبيعات السلع وتذاكر دور السينما والمسارح وغيرها من الخدمات بنسبة تتراوح بين 20 و30 بالمئة.
ومما لا شك فيه في نهاية المطاف ان تطبيق البند 155 من الدستور الاسباني وما سينجم عنه من وضع غير مسبوق في إسبانيا في إقليم ينبض جزء كبير من مواطنيه باسم الاستقلال منذ سنوات لن يكون أمرا سهلا بل محفوفا بالتحديات والصعوبات والتقلبات سيدفع التعايش بين أهل الإقليم نفسه معظم ثمنه.