أهم الأخبارمنوعات

روسيا تتجه نحو منافسة أوروبا على عقول المستقبل بالعالم العربي

يبدو أن أسلحة روسيا وصفقاتها الإقتصادية لم تعد وحدها تثير شغف دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل إن الأجيال الصاعدة بالمنطقة باتت تصوب بوصلتها نحو جامعات روسيا. فهل تدخل موسكو خط منافسة جديدة مع أوروبا والغرب بالمنطقة؟

يمكن فهم السياق الظرفي الذي يجعل دولا عربية تتجه إلى موسكو بحثا عن تحالفات سياسية أو صفقات إقتصادية ودفاعية، في ظل تراجع الدور الأمريكي وتعثر الإتحاد الأوروبي، إلا أن تزايد إهتمام طلاب منطقة شمال إفريقيا بجامعات روسيا يحتاج إلى تسليط أضواء، لأن الأمر يتعلق بصناعة نخب المستقبل. فهل الأمر مجرد بحث براغماتي من الشباب وأسرهم عن فرص دراسة بتكلفة أقل في الجامعات الروسية مقارنة بنظيراتها الأوروبية مثلا؟ أم ينطوي الأمر على اختيارات أبعد مدى، وقد تحمل معها تأثيرات على ملامح النخب في مستقبل المنطقة. وماذا يعني ذلك بالنسبة لمستقبل دور روسيا في المنطقة التي ظلت نخبها وطبقاتها الوسطى والميسورة ترى، تقليديا، في جامعات أوروبا والولايات المتحدة وكندا نموذجا تبني في إطاره أدمغة أجيالها المستقبلية.

استراتيجية روسية لاستقبال الطلاب العرب

بحسب تقرير نشرته صحيفة” فراكفورته ألغماينه” الألمانية في عددها ليوم السادس من مارس الحالي، فان مؤشرات تفيد بأن الطلاب الذين يقصدون تقليديا جامعات روسيا هم من الصين والهند ومن آسيا الوسطى، لكن في السنوات القليلة الأخيرة، تزايد عدد الطلبة الوافدين من المغرب والجزائر وتونس ومصر وبلدان إفريقية أخرى بشكل ملحوظ. وينحدر هؤلاء الطلبة من فئات الطبقات الوسطى والميسورة والنخب، الذين يتجهون لدراسة الطب والزراعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، في حين كان الاهتمام في وقت سابق يتركز على دراسة تخصصات القانون والتاريخ والعلاقات الدولية.

جامعات موسكو وبيترسبورغ وديرشافين في تامبوف (وسط روسيا) تأتي في مقدمة الجامعات الروسية التي تجتذب طلاب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد كشفت وزيرة التربية والعلوم الروسية أولغا فسيليفا أن بلادها تسعى لمضاعفة عدد الطلبة الأجانب البالغ حاليا 272 ألفا، ثلاثَ مرات خلال السنوات العشر المقبل، وأن البلدان العربية تأتي في صلب استراتيجيتها. وأعلنت الوزيرة الروسية خلال منتدى الجامعات الروسية العربية الذي افتتح مؤخرا في بيروت بمشاركة رؤساء 40 جامعة روسية، أن 11982 طالبا عربيا مسجلون هذا العام الدراسي (2017-2018) في الجامعات الروسية، منهم 9855 بعقود خاصة مدفوعة، والباقي بمنح دراسية.

ولا يتجاوز متوسط تكلفة الدراسة في جامعات روسيا خمسة آلاف يورو، أي 50 في المائة تقريبا من التكلفة التي تتطلبها الدراسة في جامعات أوروبا. كما تقدم الجامعات الروسية تسهيلات أخرى مثل إمكانية الدراسة باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، ناهيك عن تشجيع الطلاب العرب في بلدانهم على تعلم اللغة الروسية بأثمان رمزية وأحيانا مجانا.

وإذا تواصل الخط التصاعدي لإقبال طلاب شمال إفريقيا والشرق الأوسط على جامعات روسيا، فستصبح في قادم السنوات منافسا حقيقيا للجامعات الأوروبية، رغم أن روسيا تأتي في مقدمة الدول التي تبعث طلابها للدراسة في جامعات ألمانيا مثلا.

جامعات ألمانيا جذابة للطلاب العرب لكن!

الجامعات الألمانية توجد في صدارة الجامعات الأوروبية التي تستقبل الطلاب العرب، ويعتبر المغاربة الأكبر عددا من بين الطلاب العرب الذين يدرسون في ألمانيا، وبحسب أحدث إحصاء على موقع “ستاتيستا”Statista الألماني، فقد فاق عددهم 5600 طالبا سنة 2017 بمعدل نمو 5 بالمائة خلال ثلاث سنوات. ويأتي الطلاب السوريون بعد المغاربة، إذ بلغ عددهم 5469 سنة 2017، مسجلا ارتفاعا بنسبة 50 في المائة خلال ثلاث سنوات فقط، ويُعزى ذلك بشكل خاص إلى استقبال ألمانيا لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين.

وبحسب دراسة إحصائية حديثة في تونس، للفترة ما بين 2009 و2014، فإن جامعات ألمانيا تستقطب نسبة حوالي 35 في المائة من الطلبة التونسيين الذين يتجهون للدراسة في الخارج، بينما تراجعت نسبة إقبال الطلبة التونسيين على الجامعات الفرنسية بشكل ملحوظ، بعد أن كانت فرنسا تستقبل أكثر من 50 في المائة من الطلاب التونسيين بالخارج. وما تزال جامعات ألمانيا تتصدر الجامعات الأوروبية من حيث استقبالها للطلاب الأجانب، إذ بلغ عدد الطلبة الذين سُجلوا في الموسم الشتوي لسنة 2017 زهاء 359 ألف طالب أجنبي.

ورغم جاذبية الجامعات الألمانية للطلاب العرب بسبب جودتها العلمية وآفاقها المستقبلية في سوق العمل، كما يظهر مثلا من خلال المؤشرات الخاصة بالطلاب المغاربة والتونسيين والسوريين، إلا أن إرتفاع التكلفة الإجمالية للدراسة في بلاد غوتة، يضع عقبات أمام الأسر وأبنائها الراغبين في الدراسة بألمانيا، إذ بات الحصول على تأشيرة دراسة بألمانيا، بحسب موقع الهيئة الألمانية للتبادل الثقافيDAAD ، يتطلب ضمانا ماليا (عبر حساب بنكي مغلق) لتغطية مصاريف المعيشة والدراسة للطالب في ألمانيا والتي تبلغ حالياً 8.800 يورو في السنة، أي ما يقارب 733 يورو شهرياً.

وأبدت هيئات طلابية ومن المجتمع المدني بألمانيا في الآونة الأخيرة قلقها من اتجاه جامعات أكبر ولاية ألمانية (ولاية شمال الراين ويستفاليا) لفرض رسوم جديدة على الطلاب الأجانب تبلغ سنويا ثلاثة آلاف يورو، لتضاف إلى جامعات ولايات كبيرة أخرى مثل بافاريا وسكسونيا السفلى وبادن فورتمبيرغ، التي تفرض رسوما سنوية على الطلبة الأجانب.

روسيا تخوض مواجهة مع أوروبا في معاقلها التقليدية!

ما تزال جامعات كندا والولايات المتحدة وبعدها ألمانيا والمملكة المتحدة الأكثر استقبالا للطلاب العرب، لكن عندما يرتفع معدل توجه طلاب بلدان عربية كبيرة مثل مصر والمغرب والجزائر وسوريا نحو جامعات روسية، فذلك يحمل دلالات دون شك.

اختارت روسيا بيروت لإطلاق منتدى الجامعات الروسية العربية وبمشاركة رؤساء أربعين جامعة روسية، كما أشرفت وزيرة التربية والعلوم الروسية مؤخرا بنفسها على افتتاح مدرسة للغة الروسية بمنطقة البقاع في لبنان، وأعلنت خططا طموحة لنشر اللغة الروسية في البلدان العربية وتحفيز الطلاب العرب على التوجه نحو الجامعات الروسية. ولا يبدو أن الخطوة الروسية عبثية، فغير بعيد من البقاع، معقل نفوذ حزب الله الشيعي وبيروت، توسعت قواعد عسكرية روسية في عزّ الأزمة السورية من طرطوس إلى الحميمية.

موسكو تريد أن تقول إنها ليست مجرد “قوة غاشمة” أو “شرطي للعالم” تقتصر أدواره على العمليات العسكرية والتدخلات الفجّة في أزمات المنطقة الشائكة. بل تريد أن ترسل إشارة بأنها بصدد إعادة صياغة الدور الروسي بالمنطقة ومن ثم تغيير موازين القوى والنفوذ مع القوى العالمية الكبرى وخصوصا الغربية.

لروسيا تقاليد نفوذ ثقافي في بلدان عربية كثيرة تعود إلى حقبة الاتحاد السوفييتي المنهار، وليس من الوارد إحياؤها كمشروع ثقافي وإيديولوجي، لأن روسيا بوتين لا تقدم لحد الآن مشروعا ثقافيا جديدا منافسا للثقافة الغربية أو ثقافة العولمة، بقدر ما تحاول تقديم نفسها كدولة متطورة في مجالات علمية وتكنولوجية بموازاة قوتها العسكرية التي أظهرت السنوات الأخيرة أن الكرملين مستعد لاستخدامها بدون حدود في ظل سياسة التردد في عهد إدارة الرئيس أوباما وسياسة “أمريكا أولا” الإنعزالية لإدارة ترامب، وفي ظل أفول طموحات التكتل الأوروبي تحت وطأة المشاكل والأزمات الداخلية.

الإختراق الاستراتيجي الروسي في منطقة الشرق الأوسط تفسره معطيات براغماتية، يتعلق جزء كبير منها بحالة القوى الغربية وتعثر ذراعها العسكرية “حلف الأطلسي”(ناتو)، بيد أن دخول روسيا على خط المنافسة في ميادين المعرفة والعلوم، ينطوي على مؤشرات مواجهة من نوع جديد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مواجهة لإستقطاب عقول وأدمغة نخب المستقبل في المنطقة.

تفكير براغماتي في قضايا مصيرية

استراتيجية المؤسسات الأكاديمية والجامعية الروسية لاجتذاب الطلاب العرب، وبحوافز متنوعة، تضع المؤسسات الأكاديمية والجامعات الأوروبية بالخصوص في وضع دفاعي، فهي من ناحية توجد تحت وطأة منافسة شرسة مع أمريكا الشمالية والصين وقوى آسيوية أخرى. ومن ناحية أخرى لا يمكنها الاطمئنان فقط إلى تفوق شهادات خريجيها مقارنة بشهادات عدد من الجامعات الروسية التي تواجه صعوبات في سوق العمل ببلدان شمال إفريقيا مثلا، كما لا يمكن للجامعات الأوروبية أن تحافظ على جاذبيتها كوجهة تقليدية دائمة لطلاب شمال إفريقيا، ذلك أن الأسر والشباب في بلدان مثل مصر والمغرب والجزائر وتونس يفكرون بمنطق براغماتي، وهم يرون الحواجز والأسوار ترتفع بين بلدانهم والجوار الأوروبي.

لا تخفي النخب السياسية والثقافية في البلدان المغاربية ومصر مؤاخذاتها الشديدة على الدول الأوروبية بسبب تناقض خطابها في ملف الهجرة، فالعواصم الأوروبية التي تطلب دعم بلدان شمال إفريقيا في مكافحة الهجرة غير الشرعية لا تقوم في نظر هذه الأخيرة بجهد ملموس في تسهيل الهجرة الشرعية، وليس أدلَّ على ذلك، الرسوم المرتفعة في جامعات أوروبا والإجراءات الماراثونية الصعبة في القنصليات الأوروبية لطالبي تأشيرات الدراسة. ولا تشفع سياسة الهجرة التي تنتهجها الدول الأوروبية لشركاء استراتيجيين في جنوب المتوسط مثل المغرب أومصر أو الجزائر، ولا حتى تونس كبلد في طور إنتقال ديمقراطي، لا يفتئ الاتحاد الأوروبي يردد بأنه يرى فيه نموذجا للمنطقة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.