الواقعية والمثالية في خطاب الرئيس أردوغان
“الأناضول” : رغم مرور مدة طويلة، تزيد على ثلاثة أسابيع، على حادثة مقتل الصحفي السعودي، الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست”، جمال خاشقجي، إلا أنها لا تزال تحتل صدارة المشهد السياسي عالميا. إذ تتصدر الأخبار المتعلقة بها نشرات الأخبار وعناوين الصحف، وسطور المقالات والتحليلات، فضلا عن تفاعل الملايين من النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
من الواضح أن حيثيات ارتكاب الجريمة، والتصريحات المتضاربة حولها، إنكاراً ثم إقراراً، والمحاولات البدائية لتغطيتها بطريقة فجة تستخف بالعقول والأذهان، أعطت مفعولا عكسيا. فبدل أن تسدل الستار على الجريمة، دفعت بها نحو الصدارة والتدويل.
• جريمة قتل خاشقجي لم تكن صدفة إنما تم التخطيط لها مسبقا
المعلومات والأدلة المتوفرة لدى أجهزة الأمن التركية، والتي ساق الرئيس أردوغان جزء منها في خطابه أمام كتلة حزبه البرلمانية، الثلاثاء الماضي، تشير بوضوح إلى أن جمال خاشقجي، ذهب ضحية جريمة وحشية، تم التخطيط لها مسبقا. فقد تم استدراجه إلى القنصلية العامة للملكة العربية السعودية في اسطنبول بهدف تصفيته جسدياً. إذ أن تخصيص 15 شخصا لهذه المهمة ليست صدفة، ولا يمكن كما لا يقبل تفسيرها، بأن كل هؤلاء أتوا لإقناعه بالعودة لبلاده أو استجوابه.
الرئيس أردوغان فصل ذلك قائلا: “قبيل الحادث وصل إلى إسطنبول فريق سعودي من ثلاثة أشخاص وقام باستكشاف غابة بلغراد في إسطنبول ومناطق بولاية يالوفا”. وأضاف أنه تم نزع القرص الصلب من كاميرات القنصلية السعودية يوم مقتل خاشقجي. وتابع قائلا: “في أيدينا أدلة قوية على أن جريمة القتل عملية مخطط لها وليست صدفة، وإلقاء تهمة قتل خاشقجي على عناصر أمنية لا يقنعنا نحن ولا الرأي العام العالمي”.
• جريمة قتل خاشقجي جريمة سياسية بامتياز
بالنظر إلى شخصية جمال خاشقجي العالمية، بصفته كاتباً في “واشنطن بوست”، التي تعد واحدة من أشهر الصحف على مستوى العالم، وكونه أحد المثقفين والمفكرين البارزين عالميا، حيث تتم استضافته من طرف العديد من جامعات العالم المرموقة ومراكز البحوث والدراسات المختلفة، فقد دفع ذلك قادة العالم ورؤساء الدول إلى المطالبة بإجراء تحقيق مهني وشفاف، يكشف ملابسات حادثة اغتياله.
دخول الرئيس الأمريكي ترامب على خط الأزمة بتصريحاته غير المنسجمة، حيث يبدو تارة شديد الحماسة لكشف الجريمة ومعاقبة الجناة، وتارة أخرى يحاول لفت الأنظار عن الجناة الحقيقيين، بالقول بأن الجريمة نفذتها فئة مارقة، أعطاها بعدا آخر.
المطالبات المتكررة من رؤساء وقادة كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واسبانيا وغيرهم، إضافة إلى كبار المسؤولين في الاتحاد الأوربي، يدل على أن جريمة قتل جمال خاشقجي جريمة سياسية بامتياز، لا يعقل أن تنفذ بدون إرادة سياسية تقف خلفها.
• جريمة قتل خاشقجي قضية دولية
حرص أردوغان على التأكيد بأن هذه الجريمة لا تخص تركيا وحدها، بل تهم العالم بأسره، وتؤلم الضمير الإنساني، في إشارة منه إلى ضرورة استمرار الضغط الدولي من المنظمات الرسمية وغير الرسمية ، مما يساعد على تحقيق الهدف بكشف الجريمة.
صحيح أن الظروف والمعطيات والملابسات التي رافقت جريمة اغتيال جمال خاشقجي، أكسبتها بعدا دوليا متميزا. لكن الإدارة الذكية للأزمة من طرف الدولة التركية، وخصوصا فيما يتعلق بعميات تسريب الأدلة والمعلومات الخاصة بالجريمة وفق خطة نفسية مدروسة، شكلت العامل الأساس الذي ساعد وسائل الإعلام العالمية على رصد الأحداث والوقائع لحظة بلحظة، وساهم في إبقاء الأخبار المتعلقة بالجريمة ساخنة وحافلة بالمفاجآت، كما ألهب وسائل التواصل الاجتماعي التي تفاعلت مع الحدث على مدار الساعة، فأكسبته زخما إضافيا.
أردوغان أشار الى ذلك في خطابه بقوله: “جمال خاشقجي، إلى جانب كونه مواطنا سعوديا كان صحفيا عالميا أيضا، وهذا يفرض علينا مسؤولية دولية. وتركيا باسم المجتمع الدولي ستتابع القضية كممثل للضمير الإنساني”. وأضاف: “إن مقتل الصحفي السعودي في قنصلية بلاده، جريمة سياسية، وأنه من الواجب التحقيق مع المتورطين بها من الدول الأخرى إن وجدوا”.
• إقرار السعودية خطوة مهمة
أردوغان اعتبر أيضا إقرار السعودية بمقتل خاشقجي داخل القنصلية خطوة مهمة، لكنه تساءل في الوقت ذاته عن سبب عدم كشف السعوديين إلى يومنا هذا عن مكان جثة خاشقجي رغم إقرارهم بمقتله.
وعن القنصل السعودي في إسطنبول قال أردوغان: “أخبرت السعوديين أن قنصل إسطنبول لم يكن يتحلى بالكفاءة، وهذا القنصل حاول تبرئة نفسه من خلال استقبال مراسل رويترز والتجول داخل غرف القنصلية وكأنه يستهزأ بالحادثة”.
• محاكمة جميع المتورطين أمر لا مفر منه
شدد أردوغان على ضرورة محاكمة الجناة، وقال إن الضمير الإنساني لن يكون مطمئنا حتى تتم محاسبة من أصدر أمر الاغتيال وكل المنفذين. وتابع قائلا: “إذا سلمنا بأن الجثة تم تسليمها إلى متعاون محلي، فعليكم الكشف عن هويته، وعلى اعتبار أن مقتل خاشقجي جريمة سياسية، فيجب إشراك المتورطين بها من الدول الأخرى، في التحقيقات”.
ودعا أردوغان إلى محاكمة المتورطين في مقتل خاشقجي داخل الأراضي التركية، على اعتبار أن الجريمة وقعت داخل حدود تركيا، وأوضح أن بلاده تمتلك الحق في التحقيق بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، على اعتبار أن الجريمة نفذت في إسطنبول.
تصريح الرئيس أردوغان بأن الجريمة وإن وقعت في القنصلية السعودية، إلا أنها ضمن الحدود التركية، وأن معاهدة فيينا، وإن كانت تمنح الحصانة، لكنها لا تبيح ارتكاب الجرائم باسم الدبلوماسية.
• لا نية لتركيا في التصعيد مع السعودية
تصريح أردوغان بأن الحكم ينبغي أن يقوم علي العدل، ثم ذكره الملك سلمان ثلاث مرات بصفته خادم الحرمين الشريفين، وأنه يثق به، رسالة واضحة للطرف السعودي باتجاهين. أولهما منح الفرصة للقيادة السعودية لإعادة النظر في موقفها، واتخاذ الخطوات الضرورية المناسبة، حتى لو كانت عملية جراحية مؤلمة، والثانية إجراء تحقيق حساس بشأن مقتل خاشقجي من قِبل لجنة عادلة ومحايدة تماما، ولا يشتبه في أي صلة لها بالجريمة.
يقول أردوغان : “انتظرنا نتائج التحقيق كي لا نتهم أحدا، وزودت الملك سلمان في 14 أكتوبر بالمعلومات المتوفرة لدينا، وقررنا في تلك المحادثة الهاتفية تشكيل لجنة عمل مشتركة، وبناء على تعليمات الملك تم دخول مبنى القنصلية وتفتيشها، وفي هذه الأثناء عاد القنصل إلى بلاده وتم عزله من منصبه”.
لا نية لتركيا في التصعيد مع السعودية، كما أنه لا نية لها في السكوت أو التستر على مقتل جمال خاشقجي. الوقت يداهم الجميع، لكنه أشد وطأة على السعودية، لأن الكرة في ملعبها.
شدد أردوغان على التزام تركيا بالقانون الدولي والمواثيق الدولية، وحرص القيادة التركية علي عدم الوقوع في أي تجاوز قانوني ، وأن مجريات التحقيق والتفتيش تتم وفقاً للمعايير الدولية.
يرى البعض أن التنسيق بين تركيا الولايات المتحدة الأمريكية، ثمنه صفقة بين ترامب و أردوغان على حساب دم جمال خاشقجي!. مستندين إلى إشارة الرئيس أردوغان إلى اتصاله بالرئيس ترامب، واتفاقه معه علي إظهار الحقيقة.
لكن في الوقت الذي يسعى فيه الطرف التركي لإدارة الأزمة والوصول للحقيقة، يبدو الطرف الأمريكي حريصا كل الحرص على الاستفادة من الأزمة، عن طريق توظيفها من أجل ممارسة مزيد من الضغوط والابتزاز ضد السعودية.
في محاولة من السعودية لاحتواء أزمة مقتل خاشقجي، وتجنب الصدام مع تركيا، أوفد الملك سلمان بن عبد العزيز مستشاره الخاص، الأمير خالد الفيصل، في زيارة خاصة لتركيا التقى خلالها الرئيس أردوغان وعددا من المسؤولين الأتراك.
صحيفة “نيويورك تايمز” كشفت أن الأمير خالد الفيصل عرض على الأتراك خلال زيارته لأنقرة، إنهاء حصار قطر، إلى جانب سلسلة من العروض المالية المغرية. منها استثمارات داخل تركيا، ومساعدات لتحسين وضع الاقتصاد التركي. لكن الرئيس التركي أردوغان “رفض العرض بطريقة غاضبة وقال إنها رشوة سياسية”.
حديث أردوغان في خطابه عن حملات إعلامية شرسة استهدفت تركيا خلال التحقيقات، كان هدفها تلطيخ سمعتها ووضعها في قفص الاتهام.
واضح أن هدف حملات التشكيك بالموقف التركي، هو ممارسة الضغوط على السلطات التركية، من خلال الترويج بأن أنقرة قبضت ثمن سكوتها عن مقتل جمال خاشقجي.
من المؤكد أن جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي جريمة سياسية بكل المقاييس، ولا يمكن أن تمر هذه الجريمة دون عقوبة، أقلها أن يدفع مرتكبوها، الذين استهدفوا تركيا وأمنها وسمعتها بالدرجة الأولى، ثمنا سياسيا باهظا.