مستقبل الحرف اليدوية التراثية في الكويت بين الاستمرارية والاندثار
«كونا» – لم تكن الحرف التراثية مجرد صناعات فرضتها الحاجة لكسب الرزق أو بدافع اقتناء منتوجاتها في البيوت على بساطتها بل كانت شاهدا على إصرار أهل الكويت قديما على تأصيل حياتهم وسط المشقة وإثبات مثابرتهم في اتقان العمل وخلق الإبداع وتحدي الذات.
وعلى مر السنوات أصبحت تلك الحرف المتعددة التي أبدعتها كفوف الآباء والأجداد مهنا مشرفة ورمزا للهوية الكويتية وجزءا من التراث والتاريخ والذاكرة واعتمدت على المهارة اليدوية والإبداع العقلي فجسدت كلا من الحياة البحرية والبرية.
وأيضا ارتبطت أهمية كل حرفة باختلاف موادها المصنعة ومدى تلبيتهااحتياجات المجتمع فكانت ذات مكانة عالية وخصوصا في مراحل ما قبل ظهور النفط إذ استثمر هذا التراث الثقافي الذي أسس بجهود فردية ماهرة في خلق فرص عمل لشريحة واسعة من المجتمع والحد من البطالة إلى جانب تنشيطه الحركة الاقتصادية والترويج السياحي.
وأبرز تلك الحرف صناعة السفن الخشبية أو ما تسمى بالقلافة التي توارثت على أيادي القلاليف الذين شيدوا الأساطيل البحرية الكويتية ورسموا هياكل السفن وتفوقوا في بنائها حتى امتازت بالقوة والمتانة ووصلت إلى أبعد الأماكن إلى جانب حرفة حياكة السدو التي اعتبرت من أقدم الحرف التقليدية.
أضف إلى ذلك حرفة خياطة البشوت التي لا تزال تمثل الزي الوطني الكويتي وحرفة صياغة وتشكيل الذهب الذي مثل عنصرا أساسيا للمرأة الكويتية إذ ازداد نشاط تلك التجارة بعد ظهور النفط إضافة إلى الخزف والفخار وهي من أوائل الإبداعات الفنية التي صنعها الإنسان إلى جانب الحدادة والنجارة.
لكن الحرف اليدوية التراثية مع مرور الزمن لم تعد كما في سابق عهدها فبعد ظهور النفط تراجعت أهمية بعضها تدريجيا ولم تلق اهتماما كبيرا وسط المنافسة القوية مع صناعات مستوردة أجنبية لاسيما بعد أن اتجه الكويتيون من الصناعات الحرفية إلى العمل الحكومي بما يعنيه من استقرار ودخل مالي مرتفع فضلا عن التطور العلمي والتكنولوجي الذي هدد استمرار كثير من المهن وجعلها في مهب التحدي بين الأصالة والحداثة.
ووفق التقرير السنوي للعام المالي 2017-2018 الصادر عن الهيئة العامة للصناعة شهدت الحرف الصناعية القائمة المرخصة في قطاع المنسوجات في البلاد تراجعا ملحوظا إذ بلغ عدد الحرف الصناعية القائمة المرخصة 1142 حرفة عن عام 2015-2016 فيما بلغ عددها 134 عن عام 2016 -2017 إلى أن وصل عددها إلى 122 حرفة فقط في آخر تقرير صدر عن الهيئة للعام المالي 2017-2018.
وتؤكد تلك الإحصائيات أن امتهان الحرف لم يحظ بالقبول في السنوات الأخيرة في إشارة إلى أعداد الحرف القائمة المرخصة وفيما يتعلق بقطاع الخشب والمنتجات الخشبية فقد بلغ أعداد الحرف المرخصة 334 حرفة عن عام 2017 – 2018 ولم تسجل تغيرا ملحوظا حول الإقبال أو الإعراض عنها خلال الأعوام السابقة.
وتناول بعض الحرفيين والمهتمين في لقاءات متفرقة مع وكالة الأنباء الكويتية (كونا) اليوم الأحد واقع الحرف التراثية اليدوية ما بين الاستمرارية والاندثار ومستقبلها في ضوء التحديات التي تعوق ممارستها وكيفية حمايتها من الانقراض.
ففي ملامسة مباشرة لوضع الحرف بين الأوساط الشبابية قال الحرفي ومدرب الحرف والفنون الشاب الكويتي يحيى جراغ ل(كونا) إنه على الرغم من عدد الحرفيين الكويتيين الكبير فإنهم يفتقدون للدافع الذي يجعلهم بارزين في مجال الحرف لما يتطلبه العمل اليدوي من تفرغ شبه تام مما يعارض ساعات العمل في الوظائف الأساسية.
وطالب جراغ بتوفير الدعم الكافي لأصحاب الحرف من خلال منحهم التفرغ ومتابعة مخرجاتهم وإبداعاتهم إضافة إلى إنشاء المعارض والساحات لتقديم الصناعات اليدوية.
وأوضح أن استمرارية الحرفيين وتشجيع الصناعات الحرفية في الوضع الحالي يتطلبان الدقة والتجديد والإبداع الدائم كي تتم المحافظة على هذا الإرث الحضاري والحيلولة دون اندثاره.
واستعرض مسيرته في تقديم أعمال فنية مبتكرة تدمج التراث بالعناصر المتداخلة من المواد الجديدة والتي تفوق بها عن مجال خراطة الخشب والفن التفريغي وأصبحت تستقطب عددا من المهتمين بالحرف اليدوية وغيرهم من السائحين محليا ودوليا.
ورأى أن التكنولوجيا ساهمت في اكتشاف المواهب الشبابية وإعادة إحياء الصناعات الحرفية إضافة إلى دورها في فتح قنوات للاستثمار وتسويق القطع على نطاق واسع والذي يساهم في تنشيط الحركة الاقتصادية الكويتية.
وذكر أن المشكلات التي تواجه الحرفيين المهتمين بأعمال النجارة والمنتجات الخشبية متعلقة بتوفير المواد الأولية كالأخشاب فهي تستورد من الخارج مثل تركيا وأمريكا وأستراليا إلى جانب الأخشاب المحلية لاسيما تلك التي توجد بعد الكوارث الطبيعية أو الناتجة عن إزالة الأشجار لتعديل الطرق.
ولفت جراغ إلى ضرورة تعاون كل من وزارة الأشغال العامة وبلديةالكويت لتوفير الأشجار للحرفيين عوضا عن ردمها أو إحراقها وتقليل عملية استيرادها من الخارج باستثناء الأشجار الفريدة من نوعها.
وعن اهتمام المؤسسات بالحرف التراثية قالت عضوة مجلس إدارة الجمعية التعاونية الحرفية للسدو مسيرة العنزي ل(كونا) إن بيت السدو من أهم المؤسسات غير الربحية المهتمة بصناعة السدو في الكويت بل يعد أول جمعية نظامية في الخليج ترعى النسيج التقليدي الخليجي والتي تهدف للمحافظة على الطريقة التقليدية بالنسيج بالإضافة إلى تشجيع استمرار الحرفيين.
ولفتت العنزي بهذا الشأن إلى إنتاج الناسجات الكويتيات اليدوي الذي يلقى دعما مستمرا من خلال تصديره وتقديمه في المعارض المحلية والدولية موضحة أن جمعية السدو التعاونية تعمل على تهيئة مدربين جدد لنشر الوعي بمنسوجات السدو الفنية.
وذكرت أن أهم الوسائل التي تشجع استمرارية العمل في الحرف اليدوية التراثية يتمثل بالحرص على نقل الخبرات من خلال ما يعطيه بيت السدو من إرشادات فنية وإقامة دورات تعليمية وتدريبية.
وبينت أن التطور الذي أسفر عن اختلاف ذائقة الأجيال لم يكن عائقا أمام استمرار الناسجات في حماية الحرف من الاندثار بل شكل دافعا لهن للتحسين والتطوير مشيرة إلى إبداع شابات كويتيات في إطلاق الحقائب والشالات والإكسسوارات في نمط السدو انطلاقا من الرغبة في المحافظة على الفن التراثي وسط تلك المتغيرات.
وأشارت إلى أهمية دور وزارة التربية في اعتماد فن النسيج ضمن مناهج قسم التربية الفنية للمرحلة المتوسطة وتأهيل موجهي التربية الفنية للتدريب عمليا في جمعية السدو التعاونية داعية لأن تلقى جميع الحرف اليدوية التراثية الاهتمام والقبول الكافي من المؤسسات المعنية في البلاد.
وعن قيمة إرثنا الحضاري قالت إحدى الناسجات المتطوعات في بيت السدو مطيرة المسلم إن حياكة السدو على وجه التحديد ارتبطت ارتباطا وثيقا بتاريخ الكويت على بساطها الأول عندما اعتمد عليه الكويتيون في الأثاث والملبس وسد الاحتياجات حتى أصبح ذا قيمة عالية لديهم مؤكدة أن ما منحه القيمة هو توارثها من جيل لآخر.
وأكدت المسلم التي اكتسبت أساسيات الحياكة منذ السبعينيات في سن مبكرة وتابعت مسيرة الحرفة في أوج انتشارها وأصالتها وحتى تراجع الاهتمام بها حاليا ضرورة ألا تتخلى الشعوب عن تراثها والذي يدل على امتدادها وجذورها وأن يعرف الشباب قيمة إرثهم الحضاري الذي يدل على بيئتهم الأولى.
ولفتت إلى ما تحمله أنماط السدو من نقوش متعددة تحمل كلٍ منها دلالة على البيئة البسيطة المحيطة في تلك الفترة مبينة أن أن أشهر النقوش الكويتية هما العويرجان والمذخر.
وتناولت المسلم المراحل التي يمر بها السدو متمثلة في جز الصوف من الأغنام والنعاج والجمال خلال فصل الربيع مرة بالسنة كي لا تتأثر الحيوانات بالحرارة وتحتفظ بالرطوبة والبلل ثم يغزل الصوف بواسطة المغزالة والمغزل في المرحلة الثانية.
وبينت أنه يتم تلوين الصوف في المرحلة الثالثة التي يطلق عليها «الوشيع» باستخدام الحنة وقرف الرمان والعرجون والملح وغيرها من المواد الطبيعية ثم الحياكة التي تسمى بالسدو أو النول وهي العملية الرابعة والنهائية.